للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَلَا تَطْلُبُوا سَعَادَتَكُمْ إِلَّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَخَافُوا عَلَيْهَا إِلَّا مِنْهَا.

وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرَنَا هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (١٣: ٤٠) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦: ٤٨ ٥١) .

وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَحَادِيثِ فَلَا تُنَاقِضُ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هُنَا وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ دُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ فِي الْآخِرَةِ يُظْهِرُ اللهُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ بِحَسَبِ مَا فِي كِتَابِهِ تَكْرِيمًا لِلدَّاعِي الشَّفِيعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي عِلْمِ اللهِ وَلَا فِي إِرَادَتِهِ لِأَنَّ الْحَادِثَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَدِيمِ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥٧: ٣) .

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْجَزَاءَ وَكَوْنَهُ مَنُوطًا بِالْأَعْمَالِ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ مِنْ وَصْفِ الْأَعْمَالِ وَالْعَامِلِينَ لَهَا، فَأَثْبَتَ وُجُودَ حَقِيقَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا، وَهُمَا حَقِيقَةُ الطَّيِّبِ وَحَقِيقَةُ الْخَبِيثِ، فَقَالَ: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُخَاطِبًا كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ: لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ وَالْفَاسِدِ وَالصَّالِحِ، وَالْحَرَامِ وَالْحَلَالِ وَلَا مِنَ النَّاسِ كَالظَّالِمِ وَالْعَادِلِ وَالْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ وَالْمُفْسِدِ وَالْمُصْلِحِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ يَلِيقُ بِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ جَزَاءٌ

وَمَكَانٌ يَسْتَحِقُّهُ بِحَسَبِ صِفَتِهِ (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦: ١٣٩) يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ تَقْدِيمِ الْخَبِيثِ فِي الذِّكْرِ كَوْنُ السِّيَاقِ لِلْإِهْتِمَامِ بِإِزَالَةِ شُبْهَةِ الْمُغْتَرِّينَ بِكَثْرَتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) الْخِطَابُ مِنَ الرَّسُولِ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ بَلَغَتْهُ دَعَوْتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ وَلَوْ أَعْجَبَكَ أَيُّهَا السَّامِعُ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ مِنَ النَّاسِ وَجَاهِهِمْ، أَوْ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ لِسُهُولَةِ تَنَاوُلِهَا وَالتَّوَسُّعِ فِي التَّمَتُّعِ بِهَا، كَأَكْلِ الرِّبَا وَالرَّشْوَةِ وَالْغُلُوِّ وَالْخِيَانَةِ، أَوْ لِدَعْوَى أَصْحَابِهَا أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>