للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَسْلَكَهُمْ فِي الْغَوَايَةِ وَالْإِغْوَاءِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ عَنْهُ. فَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِهِمُ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةٍ يُبْعَثُونَ فِيهِمْ وَيَعْمَلُونَ الْعَجَائِبَ، وَجَاءَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّهُ - تَعَالَى - يَبْعَثُ فِيهِمْ نَبِيًّا مَنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يُقِيمُ بِهِ أُمَّةً، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ وَلَدِ الْجَارِيَةِ (هَاجَرَ) وَبَيَّنَ عَلَامَاتِهِ بِمَا لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَلَكِنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّؤَسَاءَ كَانُوا يَلْبِسُونَ عَلَى الْعَامَّةِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نَعَتَتْهُمُ الْكُتُبُ بِالْكَذَبَةِ (حَاشَاهُ) وَيَكْتُمُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ نُعُوتِهِ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ عَلَى سِوَاهُ، وَمَا يَعْلَمُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ وَمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَكُلُّهُ ظَاهِرٌ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَكْمَلِ الْمَظَاهِرِ.

وَمِنَ اللَّبْسِ أَيْضًا مَا يَفْتَرِيهِ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَحْبَارُ فَيَكُونُ صَادًّا لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَعَنِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ عَنْ ضَلَالٍ وَجَهْلٍ، وَهُوَ لَبْسُ أُصُولِ الدِّينِ بِالْمُحْدَثَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الَّتِي زَادُوهَا عَلَى الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ

الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَفْعَالِهِمْ، فَكَانُوا يُحَكِّمُونَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ فِي الدِّينِ حَتَّى فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ الْأَقْدَمِينَ أَعْلَمُ بِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَشَدُّ اتِّبَاعًا لَهُمْ، فَهُمُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمُ الْأَخْذُ بِمَا يَقُولُونَ دُونَ مَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ فَهْمُ كَلَامِهِمْ بِزَعْمِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ لَمْ يَقْبَلْ هَذَا الْعُذْرَ مِنْهُمْ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ اللَّبْسَ وَكِتْمَانَ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ترْكَ كِتَابِهِ لِكَلَامِ الرُّؤَسَاءِ بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَفَهْمًا، فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ مِنْ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ الْإِنْسَانُ أَهْلَ الْفَهْمِ عَمَّا لَا يَعْلَمُ مِنْهُ لِيَعْلَمَ فَيَعْمَلَ.

ثُمَّ قَالَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) فَبَعْدَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ دَعَاهُمْ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِعِ الْمُرْضِي لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَكَانُوا ضَلُّوا عَنْهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ الرُّسُومِ، فَقَدْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ هِيَ الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ مُقَوَّمًا كَامِلًا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِالْقَلْبِ وَالْخُشُوعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، فَهَذَا هُوَ رُوحُ الصَّلَاةِ الَّذِي شُّرِعَتْ لِأَجْلِهِ وَلَمْ تُشْرَعْ لِهَذِهِ الصُّورَةِ؛ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَتَغَيَّرُ فِي حُكْمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ؛ لِأَنَّهَا رَابِطَةٌ مُذَكِّرَةٌ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْأَنْبِيَاءِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الرُّوحَ لَا يَتَغَيَّرُ فَهُوَ وَاحِدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ نَبِيٌّ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي دِينٍ.

ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي تُطَهِّرُ الرُّوحَ وَتُقَرِّبُهَا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِيمَانِ وَمَظْهَرُ شُكْرِ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ وَالصِّلَةُ الْعَظِيمَةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ قَرْنُ الْأَمْرِ بِإِتْيَانِ الزَّكَاةِ بِالْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ لَا يَنْسَى اللهَ - تَعَالَى - وَلَا يَغْفُلُ عَنْ فَضْلِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ. مُوَاسَاةً لِعِيَالِهِ، وَمُسَاعَدَةً عَلَى مَصَالِحِهِمُ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ مَصْلَحَتِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنَ النَّاسِ بِحِذْقِهِ وَعَمَلِهِ مَعَهُمْ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>