للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِفَضْلِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّذْكِيرِ بِالتَّفْضِيلِ: أَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّ الَّذِي فَضَّلَهُمْ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ غَيْرَهَمْ كَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ إِلَى عَدَمِ الذُّهُولِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِيُذَكِّرُوهَا عِنْدَ أَمْرِ النَّاسِ بِالْبِرِّ، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَبِرُّوا مِمَّنْ يَأْمُرُونَهُمْ بِالْبِرِّ؛ لِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ الْكِتَابَ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ آيَةُ تَفْضِيلِهِمْ. وَإِلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَجْدَرُ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، فَإِنَّ الْمُفَضَّلَ أَوْلَى بِالسَّبْقِ إِلَى الْفَضَائِلِ مِمَّنْ فُضِّلَ هُوَ عَلَيْهِ.

ثُمَّ إِنَّ الْفَضْلَ عَلَى الْعَالَمِينَ إِنْ كَانَ بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى عُمُومِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ شَعْبٌ مِنَ الشُّعُوبِ يُزَاحِمُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَلَا تَقْضِي هَذِهِ الْفَضِيلَةُ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا تُنَافِي أَنْ يَفْضُلَهُمْ أَخَسُّ الشُّعُوبِ - بَلْهَ غَيْرُهُ - إِذَا هُمُ انْحَرَفُوا عَنْ هَدْيِ أَنْبِيَائِهِمْ وَتَرَكُوا سُنَّتَهُمْ وَاهْتَدَى إِلَيْهَا

ذَلِكَ الشَّعْبُ الَّذِي كَانَ مَفْضُولًا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّفْضِيلِ هُوَ الْقُرْبُ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِمَرْضَاتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُهْتَدِينَ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ فِيهِ، وَمِنْ تَقْيِيدِهِ بِمُدَّةِ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ التَّفْضِيلَ.

ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أَيْ وَاحْذَرُوا يَوْمًا عَظِيمًا أَمَامَكُمْ سَيَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ مَا لَا مَنْجَاةَ مِنْ هَوْلِهِ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَمُرَاقَبَتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَهُوَ يَوْمٌ لَا تَقْضِي فِيهِ نَفْسٌ - مَهْمَا يَكُنْ قَدْرُهَا عَظِيمًا - عَنْ نَفْسٍ مَهْمَا يَكُنْ ذَنْبُهَا صَغِيرًا شَيْئًا مَا، كَحَمْلِ وِزْرِهَا أَوْ تَكْفِيرِ ذَنْبِهَا (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (٣٥: ١٨) وَصَفَ الْيَوْمَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَثَلًا؛ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ دِفَاعِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ سُورَةٍ بِقَوْلِهِ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (١: ٤) ثُمَّ وَصَفَهُ هُنَا بِوَصْفٍ آخَرَ يُنَاسِبُ الْأَوَّلَ فَقَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (وَلَا تُقْبَلُ) بِالتَّاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَقْبَلُ مِنْهَا أَنْ تَأْتِيَ بِشَفِيعٍ يَشْفَعُ لَهَا، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا فِدَاءٌ أَوْ بَدَلٌ إِنْ هِيَ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَأْتِيَ بِذَلِكَ كَمَا يَظُنُّ أَكْثَرُ الْكُفَّارِ، وَلَنْ تَسْتَطِيعَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِالْآيَةِ نَفْيُ أَنْ يَدْفَعَ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ الْعَذَابَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُحْتَمَلٍ، وَفَصَّلَ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِمَا يَشْمَلُ الثَّلَاثَ الْمَنْفِيَّةَ، وَجُمْلَةُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَوْمٌ لَا تَأْثِيرَ لِأَحَدٍ فِيهِ وَلَا كَسْبَ، وَلَا يَنْطِقُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى. وَقَالَ (الْجَلَالُ) : أَيْ لَيْسَ لَهَا شَفَاعَةٌ فَتُقْبَلُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ) (٢٦: ١٠٠) الْآيَةِ وَفَسَّرَ الْعَدْلَ بِالْفِدَاءِ قَالَ: (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) أَيْ يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>