للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي عَهْدِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِنَّ ضَعْفَ الْإِرَادَةِ لَيَصُدُّ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ عَنِ الْوَاجِبَاتِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ احْتِمَالِ مَشَقَّةٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ نَفْسِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالْأَوْطَانِ، وَلَوْ بَحَثْتَ عَنْ خُسْرَانِ الْأَفْرَادِ الْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحُقُوقَ وَالْوَاجِبَاتِ لِكَرَامَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَخُسْرَانِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمِ الَّتِي تُولِي زَعَامَتَهَا أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ لِاسْتِقْلَالِهَا وَصَلَاحِ أَمْرِهَا لَرَأَيْتَ سَبَبَ هَذَا وَذَاكَ وَهَنَ الْعَزِيمَةِ وَذَبْذَبَةِ الْإِرَادَةِ، فَالْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَزِيمَةِ الْحَافِزَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، فَمَنْ خَسِرَ إِحْدَى الْفَضِيلَتَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ سَوَاءً كَانَ فَرْدًا، أَوْ أُمَّةً، فَمَا بَالُ مَنْ خَسِرَهُمَا كِلْتَيْهِمَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى وَقَدْ لَمَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي الْآخِرَةِ فَأَوْرَدَ عَلَى الْآيَةِ إِشْكَالًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَأَجَابَ عَنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَابًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. قَالَ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَعَلَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ مُسَبَّبًا عَنْ خُسْرَانِهِمْ وَالْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ لِاخْتِيَارِهِمُ الْكُفْرَ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.

(وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاسْتَظْهَرَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ غَيْرُ مُنْدَرِجٍ تَحْتَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. وَسَكَنَ مِنْ سُكْنَى أَوْ مِنَ السُّكُونِ ضِدَّ الْحَرَكَةِ، وَفِيهِ اكْتِفَاءٌ بِمَا ذَكَرَ عَمَّا يُقَابِلُهُ، أَيْ لَهُ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١٦: ٨١) أَيْ وَالْبَرْدَ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ فِي الْمُشْتَرَكِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْمِلْكِ

الْخَاصِّ عَلَى دُخُولِهِ فِي عُمُومِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ التَّذْكِيرُ بِتَصَرُّفِهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْخَفَايَا، فَإِنَّ السُّكْنَى وَالسُّكُونَ مِنْ دَوَاعِي خَفَاءِ السَّاكِنِ، فَإِذَا كَانَ فِي اللَّيْلِ كَانَ أَشَدَّ خَفَاءً; وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ اللَّيْلِ لِأَنَّ مَا يَسْكُنُ فِيهِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَعَطْفُ النَّهَارِ عَلَيْهِ تَكْمِيلٌ، وَلَمَّا ذَكَّرَنَا تَعَالَى بِأَنَّهُ الْمَالِكُ لِمَا ذَكَرَ، الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ بِقُدْرَتِهِ بِمَا يَشَاءُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ الْكَامِلَةِ ذَكَّرَنَا بِأَنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أَيِ الْمُحِيطُ سَمْعُهُ بِكُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْمَعَ مَهْمَا يَكُنْ خَفِيًّا عَنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ يَسْمَعُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، وَكُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يُصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ وَيَصُمُّهُ كَبِيرُهَا وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا، كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: وَهُوَ الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (٤٠: ١٩) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَدُقَّ عَنْ سَمْعِهِ دَعْوَةُ دَاعٍ أَوْ تَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ حَاجَةُ مُحْتَاجٍ، حَتَّى يُخْبِرَهُ بِهَا الْأَوْلِيَاءُ، أَوْ يُقْنِعَهُ بِهَا الشُّفَعَاءُ (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) (٢: ٢٥٥) .

بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ فَإِذَا فِيهِ مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ مَا نَقَلَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>