للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرَّازِيُّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَقَالَ إِنَّهُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي نَظْمِهَا وَهُوَ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِذْ لَا مَكَانَ سِوَاهُمَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِذْ لَا زَمَانَ سِوَاهُمَا، فَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ ظَرْفَانِ لِلْمُحْدَثَاتِ. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، وَالزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا بَيَانٌ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ. وَأَقُولُ: هَهُنَا دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الزَّمَانَ وَالزَّمَانِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَكَانَ وَالْمَكَانِيَّاتِ، أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْكَارِ مِنَ الزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ، لِدَقَائِقَ مَذْكُورَةٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الصِّرْفَةِ. وَالتَّعْلِيمُ الْكَامِلُ هُوَ الَّذِي يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَظْهَرِ فَالْأَظْهَرُ مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَخْفَى فَالْأَخْفَى اهـ.

بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ الرَّبُّ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُتَصَرِّفُ بِالْفِعْلِ وَالتَّدْبِيرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى دَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَالْأُمُورِ وَخَفَايَاهَا، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ هَذَا عَنْ عِلْمٍ مُحِيطٍ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَلَا دَبِيبُ نَمْلَةٍ. أَمَرَهُ بِقَوْلٍ آخَرَ بَيَّنَ فِيهِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مَا قَبْلَهُ مِنْ وُجُوبِ وِلَايَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ دُونَ سِوَاهُ فِي كُلِّ مَا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ الْبَشَرِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى تَوْفِيقِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَلَا يَتِمُّ بِهِ الْمُرَادُ بِمَحْضِ سَعْيِهِمْ، فَقَالَ:

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) الْوَلِيُّ النَّاصِرُ وَمُتَوَلِّي الْأَمْرِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِإِنْكَارِ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللهِ وَلِيًّا، لَا لِإِنْكَارِ الْوَلِيِّ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: أَأَتَّخِذُ وَلِيًّا غَيْرَ اللهِ، وَلَا: أَأَتَّخِذُ غَيْرَ اللهِ وَلِيًّا. وَمِثْلُهُ: (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (٣٩: ٦٤) وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اتِّخَاذُ غَيْرِ اللهِ وَلِيًّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ النَّصْرُ أَوْ غَيْرُ النَّصْرِ مِنْ ضُرُوبِ التَّصَرُّفِ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ فِعْلًا وَمَنْعًا فِيمَا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَتَصَرُّفِهِ الَّذِي مَنَحَهُ اللهُ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ; وَلِذَلِكَ فُسِّرَ الْوَلِيُّ بِالْمَعْبُودِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا تَنَاصُرُ الْمَخْلُوقِينَ وَتَوَلِّي بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِمُ الْعَادِيِّ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ اتِّخَاذِ اللهِ وَلِيًّا أَوِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ. فَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَمَنْ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَتَّخِذُونَ مَعْبُودَاتِهِمْ وَأَنْبِيَاءَهُمْ وَصُلَحَاءَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ بِنِدَائِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ مِنْ نَصْرٍ عَلَى عَدْوٍّ وَشِفَاءٍ مِنْ مَرَضٍ وَسَعَةٍ فِي رِزْقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَانَ هَذَا عِبَادَةٌ مِنْهُمْ لَهُمْ وَجَعْلُهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ بِاعْتِقَادِ كَوْنِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي مَضَتْ بِهَا السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَامَّةُ قَدْ كَانَ بِمَجْمُوعِ إِرَادَةِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى، فَمُقْتَضَى هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ تَعَالَى مَا تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِ ذَلِكَ الْمَطْلَبِ إِلَّا بِالتَّبَعِ لِإِرَادَةِ الْوَلِيِّ الشَّافِعِ أَوِ الْمُتَّخَذِ وَلِيًّا شَفِيعًا، وَالْحَقُّ أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>