للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَا كُفْرٌ بِهِ، وَيَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ تَصْرِيحُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ شِرْكٌ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللهِ، وَهَؤُلَاءِ كَجَبْرِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي قَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) (١٤٨) إِلَخْ. نَعَمْ إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ

يُسَمُّونَ مُسْلِمِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى حَتَّى فِي حَالِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ الَّتِي كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يُخْلِصُونَ فِيهَا الدُّعَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا شِرْكًا كَمَا كَانَ يُسَمِّيهِ الْمُشْرِكُونَ، بَلْ يُسَمُّونَهُ تَوَسُّلًا أَوِ اسْتِشْفَاعًا أَوْ وَسَاطَةً.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: (انْظُرْ) مِنَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَكَذِبُ الْكَفَّارِ فِي الْآخِرَةِ ثَابِتٌ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ٥٨: ١٨) .

قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَسَنٌ فِي اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الْمُشْرِكِينَ مَفْتُونِينَ بِشِرْكِهِمْ مُتَهَالِكِينَ فِي حُبِّهِ، فَذَكَرَ أَنَّ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمُ الَّذِي لَزِمُوهُ أَعْمَارَهُمْ وَقَاتَلُوا عَلَيْهِ وَافْتَخَرُوا بِهِ وَقَالُوا إِنَّهُ دِينُ آبَائِنَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا الْجُحُودَ وَالتَّبَرُّؤَ مِنْهُ وَالْحَلِفَ عَلَى عَدَمِ التَّدَيُّنِ بِهِ، وَمِثَالُهُ أَنْ نَرَى إِنْسَانًا يُحِبُّ شَخْصًا مَذْمُومَ الطَّرِيقَةِ فَإِذَا وَقَعَ فِي مِحْنَةٍ بِسَبَبِهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كَانَتْ مَحَبَّتُكَ أَيْ عَاقِبَةُ مَحَبَّتِكَ لِفُلَانٍ إِلَّا أَنْ تَبَرَّأْتَ مِنْهُ وَتَرَكْتَهُ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِتْنَتُهُمْ هِيَ شِرْكُهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) .

كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصْنَافًا مُتَفَاوِتِينَ فِي الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَفِي الْكُفْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ أَحْوَالَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ فَمِنْهُمْ أَصْحَابُ الذَّكَاءِ وَاللَّوْذَعِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ هَذَا الْقُرْآنَ وَيَعْقِلُونَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا هُوَ بِالَّذِي

يَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ فِي نَظْمِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَلَا فِي عُلُومِهِ وَحِكَمِهِ وَمَعَارِفِهِ إِذْ لَوْ كَانَ مِثْلُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>