للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيْضًا؟ . وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْعَذَابُ تِلْكَ الطَّائِفَةَ وَالْآخَرُونَ يَنْظُرُونَ، وَهَكَذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَمَرَّدُونَ وَيُعَانِدُونَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ سَوْطُ عَذَابِ اللهِ

يُصَبُّ عَلَيْهِمْ، فَرُمُوا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِمُ الْهَوَامُّ وَغَيْرُهَا حَتَّى أَمَاتَتْ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَمُجَاحَدَتُهُمْ وَمُعَانَدَتُهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ بِدْعًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ.

قَالَ - تَعَالَى -: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْثِ هُوَ كَثْرَةُ النَّسْلِ، أَيْ أَنَّهُ بَعْدَمَا وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ بِالصَّاعِقَةِ وَغَيْرِهَا وَظُنَّ أَنْ سَيَنْقَرِضُونَ بَارَكَ اللهُ فِي نَسْلِهِمْ؛ لِيُعِدَّ الشَّعْبَ - بِالْبَلَاءِ السَّابِقِ - لِلْقِيَامِ بِحَقِّ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا الْآبَاءُ الَّذِينَ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ بِكُفْرِهِمْ لَهَا.

وَالْعِبْرَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي الْآيَاتِ أَنَّ الْخِطَابَ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ وَاحِدٌ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الضَّمَائِرُ حَتَّى كَأَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالَّذِينَ صُعِقُوا بَعْدَ ذَلِكَ هُمُ الْمُطَالَبُونَ بِالِاعْتِبَارِ وَبِالشُّكْرِ، وَمَا جَاءَ الْخِطَابُ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ إِلَّا لِبَيَانِ مَعْنَى وِحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَا يَبْلُوهَا اللهُ بِهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَمَا يُجَازِيهَا بِهِ مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِيهَا يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ اللَّاحِقُ مِنْهَا بِمَا كَانَ لِلسَّابِقِ، كَأَنَّهُ وَقَعَ بِهِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ أَنْ تَكُونَ الْأُمَمُ مُتَكَافِلَةً، يَعْتَبِرُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا سَعَادَتَهُ بِسَعَادَةِ سَائِرِ الْأَفْرَادِ وَشَقَاءَهُ بِشَقَائِهِمْ، وَيَتَوَقَّعُ نُزُولَ الْعُقُوبَةِ إِذَا فَشَتِ الذُّنُوبُ فِي الْأُمَّةِ وَإِنْ لَمْ يُوَاقِعْهَا هُوَ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٨: ٢٥) وَهَذَا التَّكَافُلُ فِي الْأُمَمِ هُوَ الْمِعْرَاجُ الْأَعْظَمُ لِرُقِيِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الْأُمَّةَ الَّتِي تَعْرِفُهُ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمُقَاوَمَةِ لِلشَّرِّ فَتَكُونُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ.

بَعْدَ هَذَا ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - نِعْمَةً أُخْرَى، بَلْ نِعْمَتَيْنِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي مَنَّ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَفَرُوا بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا كَانَ بِهِ الْكُفْرَانُ، بَلْ طَوَاهُ وَأَشَارَ بِمَا خَتَمَ بِهِ الْآيَةَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَظْلِمُوا اللهَ - تَعَالَى - بِذَلِكَ الذَّنْبِ الْمَطْوِيِّ وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ آخَرُ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَيَانِ فِي التَّذْكِيرِ، وَضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى دَعَائِمِ الْإِعْجَازِ.

أَمَّا النِّعْمَةُ الْأُولَى فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا فِي سِيَاقِ الذِّكْرَى، مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا فِي الْوُقُوعِ، فَإِنَّ التَّظْلِيلَ اسْتَمَرَّ إِلَى دُخُولِهِمْ أَرْضَ الْمِيعَادِ، وَلَوْلَا أَنْ سَاقَ اللهُ إِلَيْهِمُ الْغَمَامَ يُظَلِّلُهُمْ فِي

التِّيهِ لَسَفَعَتْهُمُ الشَّمْسُ وَلَفَحَتْ وُجُوهَهُمْ. وَقَالَ: لَا مَعْنَى لِوَصْفِ الْغَمَامِ بِالرَّقِيقِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، بَلِ السِّيَاقُ يَقْتَضِي كَثَافَتَهُ إِذْ لَا يَحْصُلُ الظِّلُّ الظَّلِيلُ الَّذِي يُفِيدُهُ حَرْفُ التَّظْلِيلِ إِلَّا بِسَحَابٍ كَثِيفٍ يَمْنَعُ حَرَّ الشَّمْسِ وَوَهَجَهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ الَّتِي بِهَا الْمِنَّةُ إِلَّا بِالْكَثِيفِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>