للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا صُورَةُ السُّجُودِ مِنْ وَضْعِ الْجِبَاهِ عَلَى الْأَرْضِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُرَادَهُ؛ لِأَنَّهَا سُكُونٌ وَالدُّخُولُ حَرَكَةٌ وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِطَّةِ: الدُّعَاءُ بِأَنْ تُحَطَّ عَنْهُمْ خَطَايَا التَّقْصِيرِ وَكُفْرُ النِّعَمِ، وَتَبْدِيلُ الْقَوْلِ بِغَيْرِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، كَأَنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالشَّيْءِ فَيُخَالِفُ قَدْ أَنْكَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ أُمِرَ بِخِلَافِهِ، يُقَالُ: بَدَّلْتُ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ، أَيْ جِئْتُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ مَكَانَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.

وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَدَلُّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ كُلِّ تَعْبِيرٍ، خِلَافًا لِمَا يَتَرَاءَى لِغَيْرِ الْبَلِيغِ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: بَدَّلُوا الْقَوْلَ بِغَيْرِهِ، دُونَ أَنْ يُقَالَ: غَيْرُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فَإِنَّ مُخَالِفَ أَمْرِ سَيِّدِهِ قَدْ يُخَالِفُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: إِنَّهُمْ خَالَفُوا الْأَمْرَ خِلَافًا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ غَيْرُ الَّذِي قِيلَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِحَرَكَةٍ يَأْتُونَهَا، وَكَلِمَةٍ يَقُولُونَهَا، وَتَعَبَّدُوا بِذَلِكَ، وَجُعِلَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا عَنْهُمْ، فَقَالُوا غَيْرَهُ وَخَالَفُوا الْأَمْرَ، وَكَانُوا مِنَ الْفَاسِقِينَ. وَأَيُّ شَيْءٍ أَسْهَلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنَ الْكَلَامِ، يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ، وَقَدِ اخْتَرَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُكَلَّفُوا قَوْلَهُ لِسُهُولَةِ الْقَوْلِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَالُ أُمِرَ هَؤُلَاءِ بِكَلِمَةٍ يَقُولُونَهَا فَعَصَوْا بِتَرْكِهَا؟ إِنَّمَا يَعْصِي الْعَاصِي إِذَا كُلِّفَ مَا يَثْقُلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَحْمِلُهَا عَلَى غَيْرِ مَا اعْتَادَتْ، وَأَشَقُّ التَّكَالِيفِ حَمْلُ الْعُقُولِ عَلَى أَنَّ تُفَكِّرَ فِي غَيْرِ مَا عَرَفَتْ، وَحَثُّ النُّفُوسِ عَلَى أَنْ تَتَكَيَّفَ بِغَيْرِ مَا تَكَيَّفَتْ.

وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) إِلَى تَرْجِيحِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَالصُّورَةِ عَلَى الرُّوحِ، فَفَسَّرَ السُّجُودَ كَكَثِيرٍ مِنْ غَيْرِهِ بِالِانْحِنَاءِ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَقُولُوا (حِطَّةٌ) فَدَخَلُوا زَحْفًا عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعِيرَةٍ، أَيْ: أَنَّنَا نَحْتَاجُ إِلَى الْأَكْلِ. مَنْشَأُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الرِّوَايَاتُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ، وَلِلْيَهُودِ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلَامٌ كَثِيرٌ

وَتَأْوِيلَاتٌ خُدِعَ بِهَا الْمُفَسِّرُونَ وَلَا نُجِيزُ حَشْوَهَا فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى.

وَأَقُولُ: إِنَّ مَا اخْتَارَهُ الْجَلَالُ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ عِلَّةٍ إِسْرَائِيلِيَّةٍ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي السُّورَتَيْنِ، وَبَيَانِ وُجُوهِهَا، وَتَحْقِيقِ مَعَانِي أَلْفَاظِهَا.

وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِصْيَانَ لَمْ يَكُنْ مِنْ كُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّ هَذَا الرِّجْزَ كَانَ خَاصًّا بِالظَّالِمِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ فَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَمْتَثِلُوهُ، وَقَدْ أُكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى أَشَدَّ التَّأْكِيدِ بِوَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، فَقَالَ: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وَلَمْ يَقُلْ: فَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ؛ وَلَعَلَّ وَجْهَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّأْكِيدِ الِاحْتِرَاسُ مِنْ إِبْهَامِ كَوْنِ الرِّجْزِ كَانَ عَامًّا، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِتَأْكِيدٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) وَفِي هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُحْسِنِينَ مَا فِيهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>