للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَفِي أُسْلُوبِهَا شَيْءٌ مِنَ الْإِسْهَابِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ بَلَاغَةً وَفَهْمًا مِنَ الْعَرَبِ الْأُصَلَاءِ، وَلَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَلَامِ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَكْثَرُهُ مُحَاجَّةٌ لَهُمْ - لِأَهْلِ الْكِتَابِ - وَنَعْيٌ عَلَيْهِمْ، وَإِثْبَاتٌ لِتَحْرِيفِهِمْ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَابْتِدَاعِهِمْ فِيهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ هِدَايَتِهِ، وَنِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَدَعْوَةٌ لَهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَبَيَانٌ لِكَوْنِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، هُوَ دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَفِي هَذِهِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ أَيْضًا بَيَانٌ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَلِأُصُولِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ فِيهَا، كَمَا تَرَاهُ فِي طِوَالِ الْمُفَصَّلِ مِنْهَا، كَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِنَ السُّوَرِ. فَقِيلَ: الْمَكِّيُّ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالْمَدَنِيُّ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْمَكِّيُّ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَلَوْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، كَالَّذِي نَزَلَ فِي عَامِ الْفَتْحِ وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الْمَكِّيَّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَالْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَهَا، سَوَاءٌ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ نَفْسِهَا أَوْ ضَوَاحِيهَا أَوْ فِي مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَوْ فِي غَزْوَةٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ. فَالسُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ: هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَلِبَيَانِ أَسَاسِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَمِنْ تَرْكِ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ بِعُقُولِهِمْ وَفِطْرَتِهِمْ، وَفِعْلِ الْخَيِّرَاتِ وَالْمَعْرُوفِ بِحَسْبِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ الْمَوْكُولِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالضَّمَائِرِ. وَالسُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ هِيَ الَّتِي

نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَكُوُّنِ جَمَاعَتِهِمْ، بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ التَّفْصِيلِيَّةِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَسَتَرَى ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي الْقِسْمَيْنِ تَفْصِيلًا.

وَالسُّورَةُ: طَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ فَأَكْثَرَ، لَهَا اسْمٌ مَعْرُوفٌ بِالتَّوْقِيفِ وَالرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، قِيلَ: إِنَّ اسْمَهَا مُشْتَقٌّ مِنَ السُّورِ الَّذِي يُحِيطُ بِالْبَلَدِ.

وَقِيلَ: مِنَ السُّؤْرِ الْمَهْمُوزِ، وَمَعْنَاهُ الْبَقِيَّةُ، وَبَقِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ جُزْءٌ مِنْهُ فَالْمُرَادُ بِهَا جُزْءٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: مِنَ التَّسَوُّرِ، وَهُوَ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ.

وَقَدْ رُوِيَتْ أَسْمَاءُ السُّوَرِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَرْفُوعَةً وَمَوْقُوفَةً، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوهَا فِي مَصَاحِفِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا فِيهَا إِلَّا أَلْفَاظَ التَّنْزِيلِ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا هُمْ زَادُوا شَيْئًا - كَأَسْمَاءِ السُّوَرِ أَوْ لَفْظِ " آمِينَ " بَعْدَ الْفَاتِحَةِ - أَنَّهُ مِنَ التَّنْزِيلِ.

هَذَا - وَلَفْظُ " الْفَاتِحَةِ " صِفَةٌ، مُؤَنَّثُ الْفَاتِحِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ فَاتِحَةً؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ (وَتَكَلَّمَ عَنْ لَفْظِ الْفَاتِحَةِ وَعَنِ التَّاءِ فِيهِ) وَتُسَمَّى أُمَّ الْكِتَابِ.

وَقَالُوا: إِنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَتِهَا هَذَا الِاسْمَ مَوْضُوعٌ. ثُمَّ قَالَ: يَتَكَلَّمُونَ عِنْدَ الْكَلَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>