للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَزْهَرِيِّ أَنَّهُ الْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ. وَقَوْلُ ابْنِ سِيدَهْ هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ٤: ٥٨ وَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ الْمَنْعُ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ حَكَمْتُ وَأَحْكَمْتُ وَحَكَّمْتُ - بِالتَّشْدِيدِ - بِمَعْنَى مَنَعْتُ وَرَدَدْتُ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْحَاكِمِ بَيْنَ النَّاسِ: حَاكِمٌ ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ مِنَ الظُّلْمِ، وَذَكَرَ كَغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ " حَكَمَةَ " اللِّجَامِ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهِيَ حَدِيدَةُ اللِّجَامِ الَّتِي تُوضَعُ فِي حَنَكِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا تَرُدُّهَا وَتَكْبَحُهَا.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْجَزْمِ وَفِقْهُ الْأُمُورِ - وَهُوَ حِكْمَتُهَا - فِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ أَيْضًا وَهُوَ مَنْعُ الِاحْتِمَالَاتِ وَالظُّنُونِ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ جَازِمٌ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا. وَمَا يُقَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ يُقَالُ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ، وَكَذَا مَنْعُ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ آتَاهُ اللهُ الْحُكْمَ بِهَذَا

الْمَعْنَى - أَيِ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ وَالْفِقْهَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَشُئُونِ الْإِصْلَاحِ، وَفَهْمِ الْكِتَابِ الَّذِي تَعَبَّدَهُ بِهِ، سَوَاءٌ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ أَمْ أَنْزَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بَعْضَهُمْ بِإِيتَائِهِ الْحُكْمَ صَبِيًّا لِيَحْيَى وَعِيسَى، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ مَلَكَةُ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْفَصْلِ فِي الْخُصُومَاتِ فَلَمْ يُؤْتَهُ إِلَّا بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) مَنْ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ فِيهَا الْفَصْلُ فِي الْخُصُومَاتِ وَالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ أَخَصُّ وَيَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ - وَكَذَلِكَ النُّبُوَّةُ - وَتَكُونُ هَذِهِ الْعَطَايَا الثَّلَاثُ مَرْتَبَةً عَلَى حَسَبِ دَرَجَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ وَالْأَمْرَ الْوَاقِعَ أَنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ أُوتِيَ الثَّلَاثَ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ كَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا النُّبُوَّةَ فَقَطْ. فَإِذَا جَعَلْنَا الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ لِهَذِهِ الْعَطِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ الْقُرْآنِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) ٣٨: ٢٦ وَقَوْلُهُ فِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مَعًا: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) ٢١: ٧٩ وَقَوْلُهُ فِي يُوسُفَ: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) ١٢: ٢٢ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ٢٦: ٢١ فَهُوَ أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّ تَأَخَّرَ الْقِيَامُ بِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الرِّسَالَةِ الَّتِي تَأَخَّرَ الْقِيَامُ بِهَا عَنْ جَعْلِهِ رَسُولًا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ. وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ لِلْحُكْمِ هُنَا بِالنُّبُوَّةِ ضَعِيفٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِذِكْرِ الرِّسَالَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) ٢٦: ٨٣ فَإِنَّهُ دَعَا هَذَا الدُّعَاءَ وَهُوَ رَسُولٌ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ طَلَبُ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْحُكُومَةِ وَالسُّلْطَةِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ، عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَفِقْهِ الْقَلْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي يَحْيَى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ١٩: ١٢ وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ التَّوْرَاةِ: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا) ٥: ٤٤ وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مَرْتَبَةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>