للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَضَبِ وَالْإِعْرَاضِ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا مُتَفَرِّقِينَ فَرْدًا بَعْدَ فَرْدٍ أَوْ وُحْدَانًا مُنْفَرِدِينَ عَنِ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَالْأَهْلِ وَالْإِخْوَانِ، وَالْأَنْصَارِ وَالْأَعْوَانِ، مُجَرَّدِينَ مِنَ الْخَوَلِ وَالْخَدَمِ وَالْأَمْلَاكِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُلْفًا،

أَكَّدَ تَعَالَى الْخَبَرَ بِمَجِيئِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ وُقُوعِهِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ جُحُودِهِمْ إِيَّاهُ أَوِ اسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ، كَمَا ذَكَّرَهُمْ بِمُشَابَهَةِ بَعْثِهِمْ وَإِعَادَتِهِمْ بِبَدْءِ خَلْقِهِمْ، وَهُوَ الْمَثَلُ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ رَبِّهِمْ (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ) " أَعْطَيْنَاكُمْ، وَأَمَّا التَّخْوِيلُ إِعْطَاءُ الْخَوَلِ كَالْعَبِيدِ وَالنَّعَمِ، وَيُعَبَّرُ بِالتَّرْكِ وَرَاءَ الظَّهْرِ عَمَّا فَاتَ الْإِنْسَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، لِفَقْدِهِ إِيَّاهُ أَوْ بُعْدِهِ عَنْهُ، وَبِالتَّقْدِيمِ بَيْنَ الْأَيْدِي عَمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ مَا كَانَ شَاغِلًا لَهُمْ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا جَاءُوا بِهِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ، كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ اللهَ فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ يُمْكِنُهُمُ الِافْتِدَاءُ بِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، إِنْ صَحَّ قَوْلُ الرُّسُلِ: إِنَّ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِسَابًا وَجَزَاءً فِي حَيَاةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا كَانَ يُمْكِنُهُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَوْ آمَنُوا بِالرُّسُلِ وَأَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا. وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ) فَإِنَّ الْأَدْيَانَ الْوَثَنِيَّةَ قَائِمَةٌ عَلَى قَاعِدَتِي الْفِدَاءِ وَالشَّفَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا، أَيْ وَمَا نُبْصِرُ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَخِيَارِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ - أَوْ تَمَاثِيلِهِمْ وَقُبُورِهِمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى، تَدْعُونَهُمْ لِيَشْفَعُوا لَكُمْ عِنْدَ اللهِ وَيُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، بِتَأْثِيرِهِمْ فِي إِرَادَتِهِ، وَحَمْلِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ فِي الْأَزَلِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمُ) الْبَيْنُ الصِّلَةُ أَوِ الْمَسَافَةُ الْحِسِّيَّةُ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةُ الْمُمْتَدَّةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، فَيُضَافُ دَائِمًا إِلَى الْمُثَنَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ٤٩: ١٠ (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) ٤٩: ٩ أَوِ الْجَمْعِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ٤: ١١٤ وَلَا يُضَافُ إِلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إِلَّا إِذَا كُرِّرَ نَحْوَ (هَذَا فَرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) ١٨: ٧٨ (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) ٤١: ٥ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْغَالِبِ ظَرْفًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ وَفِي الْقَلِيلِ اسْمًا، وَقَدْ قَرَأَهُ هَنَا عَاصِمٌ وَحَفْصٌ عَنْهُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ، أَيْ تَقَطَّعَ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ مِنْ صِلَاتِ النَّسَبِ وَالْمُلْكِ وَالْوَلَاءِ وَالْخُلَّةِ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ تَقَطَّعَ الْوَصْلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>