للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْهُ بِالتَّكْرَارِ وَالْمُوَاظَبَةِ بَدِيهِيًّا ضَرُورِيًّا، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ فَلَا يُنْسَى. وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَإِنَّهُ حَلِيفُ الْكُفْرِ، وَإِنَّهُ لَيَصِلُ بِالْإِنْسَانِ إِلَى حَدٍّ يُسَاوِي فِيهِ مَنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ مُعَرِفَةٌ بِالشَّيْءِ قَطُّ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي النَّفْسِ وَلَا فِي الظَّاهِرِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الْهِدَايَةِ فَسَلَّمَ بِهَا وَقَبِلَهَا ثُمَّ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهَا حَتَّى نَسِيَهَا، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ بَلَغَتْهُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُقْنِعٍ، فَلَمْ يُؤْمِنْ إِلَّا بِمَا تَكُونُ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ أَظْهَرَ، وَكَوْنِهِ بِالْمُؤَاخَذَةِ أَجْدَرَ، وَالثَّانِي مَعْذُورٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَنْزِلَةُ النَّاسِي هِيَ الَّتِي تَلِي مَنْزِلَةَ الْجَاحِدِ الْمُعَانِدِ، وَهُوَ خَلِيقٌ بِأَنْ يُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى عَنْ طَرِيقِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ رَبَّهُ (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (٢٠: ١٢٥، ١٢٦) .

وَأَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا الْحُجَّةَ عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا التَّغَنِّي بِأَلْفَاظِهِ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ لَا أَثَرَ فِيهَا لِلْقُرْآنِ، وَأَعْمَالُهُمْ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهَذَا شَرُّ نَوْعَيِ النِّسْيَانِ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ مَثَلٌ: عَبِيدٌ أَقْطَعَهُمْ سَيِّدُهُمْ بُسْتَانًا وَكَلَّفَهُمْ إِصْلَاحَهُ وَعِمَارَتَهُ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا يُبَيِّنُ لَهُمْ فِيهِ كَيْفَ يَسِيرُونَ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ، وَكَيْفَ تَكُونُ حَيَاتُهُمْ فِيهِ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ بِمُكَافَأَةٍ وَأَجْرٍ فَوْقَ مَا يَسْتَفِيدُونَهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْبُسْتَانِ وَغَلَّاتِهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى الْإِسَاءَةِ فِي الْعَمَلِ بِالْعُقُوبَةِ

الشَّدِيدَةِ وَرَاءَ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الْبُسْتَانِ، وَمَا يَذُوقُونَ مِنْ مَرَارَةِ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَانَ حَظُّهُمْ مِنَ الْكِتَابِ تَعْظِيمَ رِقِّهِ وَوَرَقِهِ، وَالتَّغَنِّيَ بِلَفْظِهِ، وَتَكْرَارَ تِلَاوَتِهِ، بِدُونِ مُبَالَاةٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا اعْتِبَارٍ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِيهِ، بَلْ عَاثُوا فِي أَرْضِ الْبُسْتَانِ مُفْسِدِينَ فَأَهْلَكُوا الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، فَهَلْ يَكُونُ حَظُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْكِتَابِ غَيْرَ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَاطِعٌ لِأَلْسِنَةِ الْعُذْرِ مِنْهُمْ؟ !

أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْعَمَلِ، وَوَصَلَهُ بِذِكْرِ فَائِدَتِهِ وَهِيَ إِعْدَادُهُ النَّفْسَ لِتَقْوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَقَالَ: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، فَإِنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْكِتَابُ تَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - فَتَكُونُ بِهَا نَقِيَّةً تَقِيَّةً، رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (٢٠: ١٣٢) .

وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لَهُمْ تِلْكَ الْآيَةَ، وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْهِدَايَةِ، ذَكَّرَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ التَّوَلِّي عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقَبُولِ، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَامَلَهُمْ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَالصَّفْحِ عَمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَقَالَ: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أَيْ ثُمَّ أَعْرَضْتُمْ وَانْصَرَفْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ مِنْ بَعْدِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَمُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ، وَتَسْتَكِينُ لَهَا النُّفُوسُ (فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أَيْ إِنَّكُمْ بِتَوَلِّيكُمُ اسْتَحْقَقْتُمُ الْعِقَابَ، وَلَكِنْ حَالَ دُونَ نُزُولِهِ بِكُمْ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَخَسِرْتُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>