للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ كَلَامٌ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ مِمَّا يُؤْثَرُ عَنِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَعْضُ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ وَالتَّقْرِيبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُلُومِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ مَا يُحْفَظُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي ذَلِكَ لَهُ أَصِلٌ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ، خَلَطُوا فِيهِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَجَعَلُوا الْحَقِيقَةَ مَجَازًا وَالْمَجَازَ حَقِيقَةً، عَلَى نَحْوِ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَحْرِيفِهِمْ مَعْنَى كَلِمَةِ اللهِ الَّتِي عَبَّرَ بِهَا عَنِ التَّكْوِينِ فَجَعَلُوهَا ذَاتًا فَاعِلَةً خَالِقَةً وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ إِلَهًا وَبَعْضُهُمُ " ابْنَ اللهِ " وَتَحْرِيفِهِمْ مَعْنَى رُوحِ الْقُدُسِ كَذَلِكَ، وَكَلِمَةِ " ابْنٍ " الْمَجَازِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَاخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (ج ٣ تَفْسِيرٍ) فَلَا تُتَّخَذُ مُوَافَقَةُ الْوَحْيِ لِبَعْضِ تِلْكَ الْأَسَاطِيرِ شُبْهَةً عَلَى الْوَحْيِ. وَسَنَزِيدُ مَسْأَلَةَ عِبَادَةِ الْجِنِّ بَيَانًا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هَذَا بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ مَعْنَى تَسْبِيحِ الْبَارِي وَتَعَالِيهِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. الْبَدْعُ - بِالْفَتْحِ - الْإِنْشَاءُ وَالْإِيجَادُ الْمُبْتَدَأُ، أَوِ الْبِدْعُ - بِالْكَسْرِ - وَالْبَدِيعُ الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلًا كَمَا قَالَ فِي اللِّسَانِ، وَمِنْهُ الْبِدْعَةُ فِي الدِّينِ، وَيُقَالُ: بَدَعَ الشَّيْءَ (مِنْ بَابِ قَطَعَ) وَأَبْدَعَهُ وَابْتَدَعَهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِبْدَاعُ إِنْشَاءُ صَنْعَةٍ بِلَا احْتِذَاءٍ وَاقْتِدَاءٍ، وَمِنْهُ قِيلَ رَكِيَّةٌ بَدِيعٌ أَيْ جَدِيدَةُ الْحَفْرِ. وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي اللهِ تَعَالَى فَهُوَ إِيجَادُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ آلَةٍ وَلَا مَادَّةٍ وَلَا زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْبَدِيعُ الْمُحْدَثُ الْعَجِيبُ، وَالْبَدِيعُ الْمُبْدَعُ، وَأَبْدَعْتُ الشَّيْءَ اخْتَرَعْتُهُ لَا عَلَى مِثَالٍ، وَالْبَدِيعُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى لِإِبْدَاعِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ الْبَدِيعُ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، أَوْ يَكُونَ مِنْ بَدَعَ الْخَلْقَ أَوْ بَدَأَهُ. وَاللهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ خَالِقُهُمَا وَمُبْدِعُهُمَا فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْخَالِقُ الْمُخْتَرِعُ لَا عَنْ مِثَالٍ سَابِقٍ انْتَهَى. وَذَكَرَ أَنَّ بَدِيعًا مِنْ بَدَعَ لَا مِنْ أَبْدَعَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي صِيغَةٍ فَعِيلٍ أَنْ تَكُونَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَقَدْ سُمِعَ وُرُودُهَا مِنَ

الْأَفْعَالِ الرُّبَاعِيَّةِ شُذُوذًا، وَهِيَ تَأْتِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَقَدِيرٍ، وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الصِّفَةِ الْمُشَبِّهَةِ.

وَالْمَعْنَى عَلَى اخْتِلَافِ التَّقْدِيرِ - أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي بَدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَوِ الْبَدِيعُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ بِمَا كَانَ مِنْ إِبْدَاعِهِ وَاخْتِرَاعِهِ لَهُمَا، أَوِ الْبَدِيعُ فِيهِمَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ فِيهِمَا، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْدِعُ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يُوصَفَا بِكَوْنِهِمَا مِنْ وَلَدِهِ فَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، وَأَوْلَى بِهَذَا وَأَجْدَرُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ لِلْمَسِيحِ مِنْ أُمٍّ بِغَيْرِ أَبٍ غَيْرَ مُسَوِّغٍ لِجَعْلِهِ وَلَدًا لَهُ إِذْ قُصَارَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِبْدَاعًا مَا. وَالْإِبْدَاعُ التَّامُّ - وَهُوَ إِيجَادُ مَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي وَصْفِهِ وَلَا فِي سَبَبِهِ إِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ - لَيْسَ وِلَادَةً، وَأَثَرُ هَذَا الْإِبْدَاعِ وَهُوَ الْمُبْدِعُ لَا يُسَمَّى وَلَدًا ; إِذِ الْوِلَادَةُ مَا كَانَ نَاشِئًا عَنِ ازْدِوَاجٍ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى

<<  <  ج: ص:  >  >>