للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرُّتَبِ قَدِ اسْتَفَادَ وُجُودَهُ وَصِفَاتِهِ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، وَكَانَ اللُّطْفُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى تَفَاوُتِهَا الْعَظِيمِ، فَلَا بُدَ أَنْ يَكُونَ لُطْفُهُ تَعَالَى أَدَقَّ وَأَخْفَى مِنْ لُطْفِهَا، وَإِذَا كَانَ لُطْفُ بَعْضِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمِيَّةَ اللُّغَوِيَّةَ وَلَا الْعُرْفِيَّةَ فَلُطْفُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْدَرُ بِذَلِكَ وَأَحَقُّ، فَعُلَمَاؤُنَا كَافَّةً وَالرُّوحِيُّونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ - كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ - بِتَجَلِّي أَرْوَاحِ الْمَوْتَى فِي صُوَرٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي اللُّطْفِ، وَبِتَجَرُّدِ بَعْضِ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ وَظُهُورِهَا فِي أَشْبَاحٍ لَطِيفَةٍ أُخْرَى، وَالرُّوحِيُّونَ الْمُنْكِرُونَ مِنْهُمْ لِذَلِكَ - كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَمْ يُعْرَفْ كُنْهُهَا، وَأَنَّهَا أَلْطَفُ وَأَخْفَى مِنَ الْأَثِيرِ وَمِنَ الْبَسَائِطِ الْمَادِّيَّةِ بِأَسْرِهَا، وَهَى مَعَ ذَلِكَ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ، وَالْمَادِّيُّونَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَادَّةَ الْكَوْنِ الْأُولَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا صُوَرُ جَمِيعِ الْعَنَاصِرِ وَمُرَكَّبَاتِهَا لَا يُعْرَفُ لَهَا كُنْهٌ، وَلَا يُدْرِكُهَا طَرْفٌ، وَلَا يُوضَعُ لَهَا حَدٌّ، وَإِنَّهَا فِي مُنْتَهَى اللُّطْفِ وَهَى أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ رُوحِيِّينَ وَمَادِّيِّينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لُطْفَ ذَاتِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ وَلَا الْحَدَّ وَلَا التَّحَيُّزَ، فَلُطْفُ ذَاتِ الْخَالِقِ أَوْلَى بِتَنَزُّهِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا فَرَّ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ حَتَّى لَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّعْطِيلِ وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَكْثَرِ

مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ فِي كُتُبِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْوَاجِبِ عَلَى الْجَائِزِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ. وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ١٠٤ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ١٠٥ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ١٠٦ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ١٠٧.

الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كُلُّهَا فِي الْإِلَهِيَّاتِ مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّنْبِيهِ لِمَكَانَتِهَا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَفِي الْمُبَلِّغِ لَهَا عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ، وَإِعْلَامِهِ بِسُنَّةِ اللهِ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ بَشَرٌ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يُنْفَى عَنْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. قَالَ تَعَالَى:

<<  <  ج: ص:  >  >>