للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذِهِ الْآيَاتُ سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي بَيَانِ ضَلَالِ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي عَهْدِ بَعْثَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَغَلَبَةِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فِي أَثَرِ بَيَانِ ضَلَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَإِقَامَةِ حُجَجِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، وَوَصَلَ ذَلِكَ بِبَيَانِ مَسْأَلَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ الشِّرْكِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الذَّبَائِحِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا قَبْلَهَا وَحْيَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِي يُلْقُونَهُ لِغُرُورِ النَّاسِ بِهِ، وَصَغْيِ قُلُوبِ مُنْكِرِي الْآخِرَةِ لَهُ وَافْتِتَانِهِمْ بِهِ، وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ هِدَايَةِ وَحْيِ اللهِ الْمُفَصِّلِ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صَلَاحُ دُنْيَاهُمْ، فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ: لَا تَبْتَغِ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ حَكَمًا غَيْرَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكَ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، فَهَذَا الْكِتَابُ هُوَ الْهِدَايَةُ التَّامَّةُ الْكَامِلَةُ، فَادْعُ إِلَيْهِ النَّاسَ كَافَّةً، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكَ فِيهِ ; لِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ مُتَّبِعُونَ لِوَحْيِ الشَّيْطَانِ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إِلَّا الظَّنَّ الَّذِي تُرَجِّحُهُ لَهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَمَا هُمْ فِيهَا إِلَّا يَخْرُصُونَ

خَرْصًا فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَخْرُصُ أَهْلُ الْحَرْثِ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَغَيْرَهَا وَيُقَدِّرُونَ مَا تَأْتِي بِهِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَلَا شَيْءَ مِنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ وَلَا ثَابِتٍ بِدَلَائِلَ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ.

وَهَذَا الْحُكْمُ الْقَطْعِيُّ بِضَلَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ بِمَا بَيَّنَهُ بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَالْخَرْصِ - وَلَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ - تُؤَيِّدُهُ تَوَارِيخُ الْأُمَمِ كُلِّهَا، فَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا قَدْ تَرَكُوا هِدَايَةَ أَنْبِيَائِهِمْ وَضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا، وَكَذَلِكَ أُمَمُ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَبْعَدَ عَهْدًا عَنْ هِدَايَةِ رُسُلِهِمْ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ شُئُونِ الْمُجَاوِرِينَ لِبِلَادِ الْعَرَبِ خَاصَّةً.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أَيْ إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي رَبَّاكَ وَعَلَّمَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، وَبَيَّنَ لَكَ فِيهِ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنَ الْحَقِّ وَمِنْ شُئُونِ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ وَمِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ بِمَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ الْقَوِيمِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ السَّالِكِينَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ، إِذِ الضَّلَالُ مَا يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَيُبْعِدُ السَّالِكَ عَنْهُ، وَالِاهْتِدَاءُ مَا يَجْذِبُهُ إِلَيْهِ وَيُقَرِّبُهُ مِنْهُ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَصْدَقَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ حِسِّهِ، وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ اضْطَرَبُوا فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ) لِمَجِيئِهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ الشَّائِعِ مِنِ اقْتِرَانِ مَعْمُولِ اسْمِ التَّفْضِيلِ بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْقَلَمِ: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٦٨: ٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>