للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْوُجُوهِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، فَهُوَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ الْعُلَمَاءِ بِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهُ الِاعْتِدَاءُ فِي أَكْلِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ بِأَنْ يَتَجَاوَزَ فِيهِ حَدَّ الضَّرُورَةِ. وَقِيلَ الْحَاجَةِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥: ٣) وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَالْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْآثَامِ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّعْبِيرِ تَرْكُ الْإِثْمِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، أَيْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الظُّهُورِ وَالْبُطُونِ فِيهِ. وَقَدْ خَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الظَّاهِرَ بِزِنَا السِّفَاحِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَوَاخِيرِ، وَالْبَاطِنَ بِاتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ وَالصَّدِيقَاتِ فِي السِّرِّ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَبِيحُونَ زِنَا السِّرِّ وَيَسْتَقْبِحُونَ السِّفَاحَ بِالْجَهْرِ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الظَّاهِرَ بِنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَأَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَالْبَاطِنَ بِالزِّنَا، وَالتَّخْصِيصُ بِغَيْرِ مُخَصَّصٍ بَاطِلٌ.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) تَقَدَّمَ مَعْنَى لَفْظِ الِاقْتِرَافِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ١١٣ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتَسِبُونَ جِنْسَ الْإِثْمِ سَوَاءٌ أَكَانَ ظَاهِرًا أَمْ بَاطِنًا سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ إِثْمِهِمْ بِقَدْرِ مَا كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي إِفْسَادِ فِطْرَتِهِمْ، وَتَدْسِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ وَمُعَاوَدَتِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَيَمْحُوَ تَأْثِيرَ الْإِثْمِ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ الْمُضَادَّةِ لَهَا (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (١١: ١١٤) فَتَعُودُ أَنْفُسُهُمْ زَكِيَّةً طَاهِرَةً، وَتَلْقَى رَبَّهَا سَلِيمَةً بَارَّةً.

(وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُهُ عَلَيْهِ فِي مَقَامِ بَيَانِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَإِضْلَالِهِمْ بِأَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْمَفْهُومِ الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَى الْقَصْرِ، لِشِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَظْهَرِ أَعْمَالِ الشِّرْكِ، أَيْ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ عِنْدَ تَزْكِيَتِهِ، وَالْحَالُ إِنَّهُ لَفِسْقٌ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَطْعِمَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِهَذَا وَذَاكَ ; لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِتِلْكَ الْقَرَابِينِ الدِّينِيَّةِ وَأَمْثَالِهَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَبِدَلِيلِ تَقْيِيدِ النَّهْيِ بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ كَمَا حَقَّقَهُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أَيْ وَإِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِالْوَسْوَسَةِ وَالتَّلْقِينِ الْخَادِعِ الْخَفِيِّ مَا يُجَادِلُونَكُمْ بِهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِيهَا فَجَارَيْتُمُوهُمْ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ مِثْلُهُمْ؛ فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>