للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رَابِطَةً جِنْسِيَّةً، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ هِدَايَةً رُوحِيَّةً؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَيُحَرِّفُونَ كَلِمَهُ عَنْ مَوَاضِعِهَا بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ، وَمَا أَعْذَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَمَعِهِمْ هَذَا إِلَّا بَعْدَ مَا قَصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نَبَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ التَّشْرِيعِ، وَشَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا عُلِمَ بِهِ أَنَّهُمْ فِي الْمُجَاحَدَةِ وَالْمُعَانَدَةِ عَلَى عِرْقٍ رَاسِخٍ وَنَحِيزَةٍ مَوْرُوثَةٍ لَا يَكْفِي فِي زِلْزَالِهَا كَوْنُ الْقُرْآنِ مُبِينًا فِي نَفْسِهِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ رَيْبٌ، وَلَا يَتَسَرَّبُ إِلَيْهِ شَكٌّ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ السُّورَةَ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِهَذَا وَكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَثَنَّى بِبَيَانِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ

مَنْ يُعَانِدُهُ وَيُبَاهِتُهُ، وَمِنْهُمُ الْمُذَبْذَبُ الَّذِي يَمِيلُ مَعَ الرِّيحَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ أَفَاضَ فِي شَرْحِ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَكَانَ الْأَكْثَرُونَ أَشَدَّ النَّاسِ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ وَإِيذَاءً لِلرَّسُولِ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْكَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الطَّمَعَ بِدُخُولِ الْيَهُودِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَوَصَلَ الْإِنْكَارَ بِحُجَّةٍ وَاقِعَةٍ نَاهِضَةٍ، تَجْعَلُ تِلْكَ الْحُجَّةَ النَّظَرِيَّةَ دَاحِضَةً، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ مُتَّصِلًا فِي مَوْضُوعِ الْكِتَابِ وَأَصْنَافِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ جَاءَ مَا يُذَكِّرُ بِهِ تَذْكِيرًا.

قَالَ - تَعَالَى -: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْخُطَّابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَلَكِنْ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَارِكُونَهُ فِي الْأَلَمِ مِنْ إِيذَائِهِمْ وَالطَّمَعِ بِهِدَايَتِهِمْ فَأَشْرَكَهُمْ بِالتَّسْلِيَةِ كَمَا سَبَقَ؛ وَلِأَنَّ طَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الِانْبِسَاطِ مَعَهُمْ فِي الْمُعَاشَرَةِ إِلَى حَدِّ الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِمْ بِبَعْضِ الشُّئُونِ الْمَلِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَاتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً، وَكَانَ يَعْقُبُ ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا يَعْقُبُ حَتَّى نَهَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِأَوْصَافِ هَؤُلَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) (٣: ١١٨) وَالْآيَةُ التَّالِيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِفْضَاءِ أَيْضًا.

أَمَّا الْحُجَّةُ الَّتِي وَصَلَهَا بِإِنْكَارِ الطَّمَعِ بِإِيمَانِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ؛ فَهِيَ تَعْمُدُ تَحْرِيفِ كَلَامِ اللهِ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اخْتَارَ بِأَمْرِ اللهِ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ لِسَمَاعِ الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ الْحَالِ الَّتِي يُكَلِّمُهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَا، وَقَدْ سَمِعُوا كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى -

<<  <  ج: ص:  >  >>