للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ حَادِي الْأَرْوَاحِ كَلَامٌ حَافِلٌ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ ثَوَابًا وَعِقَابًا يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ الْقَوْلِ فِيهَا هُنَا.

وَقَدْ بَيَّنَ " الرَّازِيُّ " وَجْهَ حَصْرِ الْغِنَى وَالرَّحْمَةِ فِي اتِّصَافِ الرَّبِّ بِهِمَا وَحْدَهُ عَلَى

طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ قَالَ: " وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْكُلَّ لَا يُحَاوِلُونَ إِلَّا التَّقْدِيسَ وَالتَّعْظِيمَ، وَسَمِعَتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ ضِيَاءَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ نَاصِرٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: نَظَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللهِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ وَنَفَاذِ الْمَشِيئَةِ، وَنَظَرَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَعْظِيمِ اللهِ فِي جَانِبِ الْعَدْلِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَلَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَخْطَأَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَابَ وَرَجَاءُ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) اهـ.

أَقُولُ: إِنَّهُ يَعْنِي بِأَهْلِ السُّنَّةِ هُنَا الْأَشْعَرِيَّةَ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي عُلَمَاءِ النَّظَرِ، فَالْأَشْعَرِيَّةُ يُبَالِغُونَ فِي قَصْرِ نَظَرِيَّاتِهِمْ عَلَى تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ تَعْذِيبَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَتَنْعِيمَ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يُبَالِغُونَ فِي قَصْرِ نَظَرِيَّاتِهِمْ عَلَى عَدْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ، حَتَّى عَطَّلُوا بَعْضَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَأَوْجَبُوا عَلَى اللهِ مَا أَوْجَبُوا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ الْأَثَرِ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلسَّلَفِ أَكْمَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عِلْمًا وَإِيمَانًا؛ لِجَمْعِهِمْ بَيْنَ كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَعَدَمِ تَأْوِيلِ بَعْضِهَا بِرَدِّهِ إِلَى مَذْهَبٍ يَلْتَزِمُ لِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، أَوْ بِكُلِّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ - كَمَا يُعَبِّرُ كُتَّابُ هَذَا الْعَصْرِ - ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ:

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أَيْ إِنْ يَشَأْ إِذْهَابَكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ بِرَسُولِهِ الْمُعَانِدُونَ لَهُ وَاسْتِخْلَافَ غَيْرِكُمْ بَعْدَكُمْ يُذْهِبْكُمْ بِعَذَابٍ يُهْلِكُكُمْ بِهِ، كَمَا أَهْلَكَ أَمْثَالَكُمْ مِنْ مُعَانِدِي رُسُلِهِ كَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ، وَيَسْتَخْلِفُ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَوِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَقَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ وَإِنْشَاءِ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِكُمْ أَوْ ذُرِّيَّةِ غَيْرِكُمْ أَحَقِّ بِرَحْمَتِهِ مِنْكُمْ كَمَا قَدَرَ عَلَى إِنْشَائِكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءَ يَكُونُونَ خَيْرًا مِنْكُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَيُقِيمُونَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْأَرْضِ.

وَقَدْ أَهْلَكَ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ عَادَوْا خَاتَمَ رُسُلِهِ كِبْرًا وَعِنَادًا وَجَحَدُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مَعَ اسْتِيقَانِهِمْ صِدْقَهُ، وَاسْتَخْلَفَ فِي الْأَرْضِ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ كَانَ كُفْرُهُمْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ لِمَنْ قَبْلَهُمْ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ ذَهَبَتْ بِهِ آيَاتُ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ بِإِرْشَادِهِ فَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ إِيمَانًا وَإِسْلَامًا وَإِحْسَانًا وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَذُرِّيَّاتُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْظَمَ مُظْهِرٍ لِرَحْمَةِ اللهِ لِلْبَشَرِ بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى فِي حُرُوبِهِمْ وَفُتُوحِهِمْ كَمَا شَهِدَ بِذَلِكَ الْمُنْصِفُونَ مِنْ مُؤَرِّخِي الْإِفْرِنْجِ

<<  <  ج: ص:  >  >>