للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الَّذِينَ هَادُوا هُمُ الْيَهُودُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْآتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) (٧: ١٥٦) أَيْ رَجَعْنَا وَتُبْنَا، وَأَصْلُ الْهُودِ الرُّجُوعُ بِرِفْقٍ قَالَهُ الرَّاغِبُ، أَيْ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا - دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ - حَرَّمْنَا فَوْقَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إِلَخْ. وَقَوْلُنَا: " دُونَ غَيْرِهِمْ " هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ. وَالظُّفُرُ مِنَ الْأَصَابِعِ مَعْرُوفٌ، وَيَكُونُ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَائِرٍ وَغَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرُوا الْمِخْلَبَ بِظُفُرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، فَالظُّفُرُ عَامٌّ وَالْمِخْلَبُ خَاصٌّ بِمَا يَصِيدُ كَالْبُرْثُنِ لِلسَّبْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الِاسْتِعَارَةِ: أَنْشَبَتِ الْمَنِيَّةُ أَظْفَارَهَا فِي فُلَانٍ - وَفِي اللِّسَانِ عَنِ اللَّيْثِ الظُّفُرُ ظُفُرُ الْأُصْبُعِ وَظُفُرُ الطَّائِرِ، وَفِيهِ: وَقَالُوا: الظُّفُرُ لِمَا لَا يَصِيدُ وَالْمِخْلَبُ لِمَا يَصِيدُ أَيْ خَاصٌّ بِمَا يَصِيدُ مِنَ الطَّيْرِ ثُمَّ ذَكَرَ الْآيَةَ وَقَالَ: " دَخَلَ فِي ذِي الظُّفُرِ ذَوَاتُ الْمَنَاسِمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالنَّعَامِ لِأَنَّهَا لَهَا كَالْأَظْفَارِ. وَهَذَا تَوْجِيهٌ لُغَوِيٌّ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَفْسِيرِ كُلِّ ذِي ظُفُرٍ بِالْبَعِيرِ وَالنَّعَامَةِ. وَظَاهِرٌ أَنَّهُ مَجَازٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ لَمْ تُفْرَجْ قَوَائِمُهُ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَمَا انْفَرَجَ أَكَلَتْهُ الْيَهُودُ. وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ الْإِبِلَ وَالنَّعَامَ وَالْوَرَنِيَّةَ وَالْبَطَّ وَالَوَزَّ وَحِمَارَ الْوَحْشِ. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُسْلِمٍ قَالَ: إِنَّهُ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَكُلُّ ذِي حَافِرٍ مِنَ الدَّوَابِّ، ثُمَّ قَالَ:

كَذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَقَالَ: وَسُمِّيَ الْحَافِرُ ظُفُرًا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْحَافِرِ ظُفُرًا، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ الْحَافِرَ لَذَكَرَهُ، وَجَزَمَ بِوُجُوبِ حَمْلِ الظُّفُرِ عَلَى الْمَخَالِبِ وَالْبَرَاثِنِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُ السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الطُّيُورُ الَّتِي تُصْطَادُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعُمُّ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ. ثُمَّ قَالَ:

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) يُفِيدُ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كَذَا وَكَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي اللُّغَةِ (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْكُلِّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا) فَائِدَةٌ - فَثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ فَوَجَبَ أَلَّا تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ، ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مَقْبُولًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَقْوَى قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اهـ.

وَأَقُولُ: " إِنَّ تَضْعِيفَهُ الْحَدِيثَ مَعَ صِحَّةِ رِوَايَتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>