للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَنْهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ فَاطِرٍ بِقَوْلِهِ: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٣٥: ٤٢، ٤٣) إِلَخْ. وَهَذَا التَّأْكِيدُ بِالْقَسَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ الْبَشَرِ فِطْرَةً وَأَعْلَاهُمُ اسْتِعْدَادًا لِكُلِّ فَضِيلَةٍ، وَكَانَ اعْتِقَادًا رَاسِخًا فِي عُقُولِهِمْ مُتَمَكِّنًا مِنْ وُجْدَانِهِمْ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِ مَا رَوَاهُ التَّارِيخُ لَنَا مِنَ الْمُفَاخَرَاتِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ، وَإِذَا كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ كُلُّهَا تَعْتَقِدُ أَنَّ شَعْبَهُمْ أَزْكَى مِنْ جَمِيعِ الْأَعَاجِمِ فِطْرَةً، وَأَذْكَى أَفْئِدَةً وَأَعَزُّ أَنْفُسًا وَأَكْمَلُ عُقُولًا وَأَفْهَامًا وَأَفْصَحُ أَلْسِنَةً وَأَبْلَغُ بَيَانًا، فَمَا الْقَوْلُ بِقُرَيْشٍ الَّتِي دَانَتْ لَهَا الْعَرَبُ وَاعْتَرَفَتْ بِفَضْلِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْهُمْ؟ وَلَكِنَّ جُمْهُورَ سَادَةِ قُرَيْشٍ وَكُبَرَاءَهَا قَدِ اسْتَكْبَرُوا بِذَلِكَ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا، حَتَّى كَذَّبُوا بِأَعْظَمِ مَا فُضِّلَ - وَاللهِ - بِهِ جِيلُهُمْ وَقَوْمُهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَجْيَالِ وَالْأَقْوَامِ بِالْحَقِّ - وَهُوَ الْقُرْآنُ - وَصَدُّوا عَنْهُ وَصَدَفُوا عَنْ آيَاتِهِ، فَكَانَ إِقْسَامُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَإِنْ صَدَقَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْكِتَابِ فَسَادُوا بِهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ، وَكَانُوا أَئِمَّةً لَهَا فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهِ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَسَمُ صَادِرًا عَنْ عَقِيدَةٍ رَاسِخَةٍ، فَلَا جُرْمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِهِمُ النَّذِيرُ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُنِيرِ لَاعْتَذَرُوا فِي الْآخِرَةِ بِهَذَا الْعُذْرِ، عَلَى أَنَّ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ ظَلُّوا يُطَالِبُونَ النَّذِيرَ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَهُوَ - أَيِ الْكِتَابُ - أَقْوَى مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى النُّبُوَّةِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عِلْمِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَدَلَالَاتَهَا وَضْعِيَّةٌ أَوْ عَادِيَّةٌ عَلَى أَنَّهَا تَشْبِيهٌ بِالسِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ وَسَائِرِ الْغَرَائِبِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَقَدْ وَضَّحْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَاعْتُبِرَ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ طه: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) (٢٠: ١٣٣، ١٣٤) . (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْقَاطِعُ لِكُلِّ تَعِلَّةٍ وَعُذْرٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ بَيِّنَةٌ عَظِيمَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَتَنْكِيرُ الْبَيِّنَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِلتَّعْظِيمِ، إِذِ الْبَيِّنَةُ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ، وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِلْحَقِّ مِنَ الْعَقَائِدِ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، وَفِي الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَأُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ بِمَا تَصْلُحُ

بِهِ أُمُورُ الْبَشَرِ وَشُئُونُ الِاجْتِمَاعِ، وَهُدًى كَامِلٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، فَإِنَّهُ يَجْذِبُهُ بِبَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي قَرَّرَهُ، وَإِلَى عَمَلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ الَّذِي بَيْنَ فَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ لِلْبَشَرِ الَّذِينَ تَنْتَشِرُ فِيهِمْ هِدَايَتُهُ، وَتَنْفُذُ فِيهِمْ شَرِيعَتُهُ، حَتَّى الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ آمِنِينَ فِي ظِلِّهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، مُسَاوِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>