للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَخْلُوقَةٌ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. إِلَّا أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ بِخَلْقِ نَاسُوتِ الْمَسِيحِ دُونَ هُوتِهِ إِذِ اللَّاهُوتُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْحُلُولِ فِي الْأَجْسَادِ، وَالتَّحَوُّلِ فِي صُوَرِ الْعِبَادِ.

(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ قَبْلَهَا، لِأَنَّهَا مُعَلِّلَةٌ لِلْإِنْكَارِ وَمُقَرِّرَةٌ لِلتَّوْحِيدِ

مِثْلُهَا، وَهِيَ قَاعِدَةٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (٥٣: ٣٦ - ٣٩) وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِصْلَاحِ لِلْبَشَرِ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ، لِأَنَّهَا هَادِمَةٌ لِأَسَاسِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهَادِيَةٌ لِلْبَشَرِ إِلَى مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ سَعَادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ (وَهُوَ عَمَلُهُمْ) وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ أَسَاسَ الْوَثَنِيَّةِ طَلَبُ رَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ بِقُوَّةٍ مِنْ وَرَاءِ الْغَيْبِ، هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ وَسَاطَةِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ - الْمُمْتَازَةِ بِبَعْضِ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا - بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ لِيُعْطِيَهُمْ مَا يَطْلُبُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ بِدُونِ كَسْبٍ وَلَا سَعْيٍ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلِيَحْمِلُوا عَنْهُمْ أَوْزَارَهُمْ حَتَّى لَا يُعَاقِبَهُمْ تَعَالَى بِهَا، أَوْ يَحْمِلُوا الْبَارِيَ تَعَالَى عَلَى رَفْعِهَا عَنْهُمْ وَتَرْكِ عِقَابِهِمْ عَلَيْهَا، وَعَلَى إِعْطَائِهِمْ نَعِيمَ الْآخِرَةِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنْ عَذَابِهَا، أَيْ عَلَى إِبْطَالِ سُنَّتِهِ وَتَبْدِيلِهَا فِي أَمْثَالِهِمْ، أَوْ تَحْوِيلِهَا عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) (٣٥: ٤٣) .

فَمَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ عَامِلَةٍ مُكَلَّفَةٍ إِثْمًا إِلَّا كَانَ عَلَيْهَا جَزَاؤُهُ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا تَحْمِلُ نَفْسٌ فَوْقَ حِمْلِهَا حِمْلَ نَفْسٍ أُخْرَى، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ إِنَّمَا تَحْمِلُ وِزْرَهَا وَحْدَهَا (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (٢: ٢٨٦) دُونَ مَا كَسَبَ أَوِ اكْتَسَبَ غَيْرُهَا. وَالْوِزْرُ فِي اللُّغَةِ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ، وَوَزَرَهُ يَزِرُهُ - حَمَلَهُ يَحْمِلُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ بِحَاصِلِ الْمَعْنَى: لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ غَيْرِهِ، فَالدِّينُ قَدْ عَلَّمَنَا أَنْ نَجْرِيَ عَلَى مَا أَوْدَعَتْهُ الْفِطْرَةُ مِنْ أَنَّ سَعَادَةَ النَّاسِ وَشَقَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّ عَمَلَ كُلِّ نَفْسٍ يُؤَثِّرُ فِيهَا التَّأْثِيرَ الْحَسَنَ الَّذِي يُزَكِّيهَا إِنْ كَانَ صَالِحًا، أَوِ التَّأْثِيرَ السَّيِّئَ الَّذِي يُدَسِّيهَا وَيُفْسِدُهَا إِنْ كَانَ فَاسِدًا، وَأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا التَّأْثِيرِ فَلَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلُ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ قُدْوَةً صَالِحَةً فِي عَمَلٍ أَوْ مُعَلِّمًا لَهُ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِ مَنْ أَرْشَدَهُمْ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ زِيَادَةً عَلَى انْتِفَاعِهِ بِأَصْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، وَمَنْ كَانَ قُدْوَةً سَيِّئَةً فِي عَمَلٍ أَوْ دَالًّا عَلَيْهِ وَمُغْرِيًا بِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ إِثْمِ مَنْ أَفْسَدَهُمْ كَذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ يُعَدُّ مِنْ عَمَلِ الْهَادِينَ وَالْمُضِلِّينَ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا بِقَوْلِهِ: " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>