للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ، وَدَلِيلُهَا مَحْصُورٌ فِي الْإِنْبَاءِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَكَانَ هَذَا الْفَرِيقُ مُنْتَشِرًا فِي أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَثِيرًا بِكَثْرَتِهِمْ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّتَانِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حُجَّةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَعْجَبُونَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَإِجَابَتِهِمْ دَعْوَتَهُ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمُجَاحَدَةَ وَالْمُعَانَدَةَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَمِمَّا عُرِفَ مِنْ شَنْشَنَتِهِمْ، وَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الدَّعْوَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَقَالَ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وَالْغُلْفُ: بِضَمٍّ وَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ أَغْلَفَ، وَهُوَ مَا يُحِيطُ بِهِ غِلَافٌ يَمْنَعُ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ. وَالْمُرَادُ أَنَّنَا لَا نَعْقِلُ قَوْلَكَ، وَلَا يَنْفُذُ إِلَى قُلُوبِنَا مَفْهُومُ دَعْوَتِكَ؛ فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ) (٤١: ٥) .

وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِمَا يُشْعِرُ بِكَذِبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَقَالَ: (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَيْسَتْ غُلْفًا لَا تَفْهَمُ الْحَقَّ بِطَبْعِهَا، وَإِنَّمَا أَبْعَدَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَبِالْكِتَابِ الَّذِي تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَحَرَّفُوهُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، فَهُمْ قَدْ أَنِسُوا بِالْكُفْرِ وَانْطَبَعُوا عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي حِرْمَانِهِمْ مِنْ قَبُولِ الرَّحْمَةِ الْكُبْرَى بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، هَذَا هُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَعَهُ عِلَّتَهُ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَأَنَّ اللهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِهَذَا، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَسْتَتْبِعُ الْكُفْرَ، وَالْعِصْيَانِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى التَّمَادِي فِي الْعِصْيَانِ، كَمَا هِيَ السَّنَةُ فِي أَخْلَاقِ الْإِنْسَانِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّعْنَ مُعَلَّلًا بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ السَّابِقَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ بَلْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَكِتَابِهِ وَرُسُلِهِ إِلَيْهِمُ اسْتَدْرَكَ فَقَالَ: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، وَإِنَّمَا الْقِلَّةُ فِي الْإِيمَانِ

بِاعْتِبَارِ مَا يُؤْمَنُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَتَحْكِيمِهِ فِي الْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ.

وَلَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ يُؤْمِنُونَ بِالشَّرِيعَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَكَمَا تُعْطِيهِ ظَوَاهِرُ الْأَلْفَاظِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْبِسُوهَا مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا وَلَمْ يَفْقَهُوا حِكَمَهَا وَأَسْرَارَهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ هِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِإِرَادَتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحَرِّكُهَا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَيُصَرِّفُهَا عَامِلُ اللَّذَّةِ، فَالْإِيمَانُ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلًا بِاللِّسَانِ، وَرَسْمًا يَلُوحُ فِي الْخَيَالِ، تُكَذِّبُهُ الْأَعْمَالُ وَتَطْمِسُهُ السَّجَايَا الرَّاسِخَةُ وَالْخِلَالُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ نَرَى آيَاتِ الْقُرْآنِ تُبْطِلُهُ بِالْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ عَنْ ذَلِكَ غَافِلُونَ، فَقَلِيلًا مَا يَعْتَبِرُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ (مَا) زَائِدَةٌ وَمَا هِيَ بِزَائِدَةٍ وِفَاقًا لِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَجَلَّ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَلِمٌ زَائِدٌ، وَإِنَّمَا تَأْتِي (مَا) هَذِهِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ تَارَةً وَلِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ تَارَةً، وَيَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا فِي مِثْلِ هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>