للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنَ الذُّنُوبِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى إِبَاحَتِهَا وَالْإِغْرَاءِ بِهَا، وَإِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَجْوِبَةٍ لَعَلَّ أَقْوَاهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَنَّ وَجْهَ تَخْلِيصِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَآمَنُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا خِلَافَ فِي نَجَاةِ مِثْلِهِ.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)

تَقَدَّمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ، وَبَيَانِ أَسَاسِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ وَاضِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى رَبُّ الْعِبَادِ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ بِمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَأَنَّهُ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ نَوْعَيِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ مَنْ يَتَّبِعُونَ أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءَ أَيْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَهَذَا مَوْضُوعُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.

وَلَمَّا كَانَ الدِّينُ الَّذِي أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ التَّنْزِيلِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ - إِلَّا مَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ - هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا يُوَصِّلُهَا إِلَى كَمَالِهَا، وَالنَّاهِي لَهَا عَنْ كُلِّ مَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْكَمَالِ وَكَانَ افْتِتَانُ النَّاسِ بِأَمْرِ الْمَعِيشَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِفْسَادِ الْفِطْرَةِ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعِيشَةِ سَبَبًا

لِإِصْلَاحِهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهِ الْمُوجِبِ لِلْمَزِيدِ مِنْهُ - لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ذَكَّرَ سُبْحَانَهُ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَخَلْقِ أَنْوَاعِ الْمَعَايِشِ فِيهَا، وَهُوَ بَدْءُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِيهِ بَيَانُ خَلْقِ نَوْعِهِمُ الْإِنْسَانِيِّ مُسْتَعِدًّا لِلْكَمَالِ وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي تَصُدُّهُ عَنْهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَفْرَادِهِ مِنِ اتِّقَاءِ فِتْنَةِ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ وَعَدَمِ اتِّخَاذِ شَيَاطِينِهَا الْمُلْقِينَ لَهَا أَوْلِيَاءَ يَتْبَعُونَهُمْ دُونَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى كُفْرِ النِّعَمِ عِوَضًا عَنِ الشُّكْرِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ، وَيَتْلُوهُ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الزِّينَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا.

فَهَذَا السِّيَاقُ الِاسْتِطْرَادِيُّ أَوِ الْمُشْبِهُ لِلِاسْتِطْرَادِ يَبْتَدِئُ مِنَ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَى الْآيَةِ الثَّالِثَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>