للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَّا مَنْ أَغْوَى غَيْرَهُ وَأَضَلَّهُ بِقَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ فَكَانَ قُدْوَةً سَيِّئَةً لَهُ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْمُقَرِّرَةِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعِقَابَ فِيهَا عَلَى مَجْمُوعِ الشِّرْكِ وَكَبَائِرِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ مُقَسَّمٌ عَلَيْهِمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا جُزْءٌ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ، فَكَانَ مُضَاعَفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِقَابِ الْمُشْرِكِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِفْ تِلْكَ الْكَبَائِرِ، أَوْ عِقَابِ مُقْتَرِفِهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنْ يُضَاعَفَ الْعَذَابُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ انْتِفَاءِ الْإِضْلَالِ وَسُوءِ الْقُدْوَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَاعِلَ تِلْكَ الْمَعَاصِي

مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُجَاهِرًا بِضَلَالِهِ فَيَلْزَمُهُ الْإِضْلَالُ بِسُوءِ الْقُدْوَةِ، وَقَدْ قِيلَ بِمِثْلِهِ فِي كُلِّ مُجَاهَرَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ: (آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ) (٣٣: ٦٨) فَإِنَّ لَفْظَ الضِّعْفِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَضَايِفَةِ الَّتِي يَقْتَضِي وُجُودُ أَحَدِهَا وُجُودَ الْآخَرِ كَالزَّوْجِ وَهُوَ تَرَكُّبُ قَدْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَيَخْتَصُّ بِالْعَدَدِ فَضِعْفُ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُثَنِّيهِ، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى عَدَدٍ اقْتَضَى ذَلِكَ الْعَدَدَ وَمِثْلَهُ، فَضِعْفُ الْوَاحِدِ اثْنَانِ وَضِعْفُ الْعَشْرَةِ عِشْرُونَ، فَإِذَا قِيلَ أَعْطِهِ ضِعْفَيْنِ مِنْ كَذَا كَانَ مَعْنَاهُ أَعْطِهِ اثْنَيْنِ أَوْ سَهْمَيْنِ مِنْهُ. وَأَمَّا إِذَا قِيلَ أَعْطِهِ ضِعْفَيْ وَاحِدٍ بِالْإِضَافَةِ كَانَ مَعْنَاهُ أَعْطِهِ وَاحِدًا وَضِعْفَيْهِ أَيْ ثَلَاثَةً وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ.

(وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) هَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِ أُخْرَاهُمْ أَوْ مِنْ جَوَابِ الرَّبِّ تَعَالَى لَهُمْ - وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّنَا نَحْنُ أَضْلَلْنَاكُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهَذَا أَدْنَى فَضْلٍ تَطْلُبُونَ بِهِ أَنْ يَكُونَ عَذَابُكُمْ دُونَ عَذَابِنَا وَالذَّنْبُ وَاحِدٌ، وَقَدِ اعْتَرَفْتُمْ بِتَلَبُّسِكُمْ بِالضَّلَالِ الْمُقْتَضِي لَهُ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِكَسْبِكُمْ لَهُ مَهْمَا يَكُنْ سَبَبُهُ. وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٧: ٢٧ - ٣٣) .

وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَأَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ الرَّبُّ قَدْ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَّا أَوْ مِنَّا وَمِنْكُمْ ضِعْفًا مِنَ الْعَذَابِ، فَلَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا فَضْلٌ يُخَفَّفُ بِهِ عَنْكُمْ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ، فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مِثْلَنَا، فَنَحْنُ لَمْ نَكُنْ بِمُكْرِهِينَ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ فَعَلْتُمُوهُ بِاخْتِيَارِكُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ لَكُمُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا لَوِ اهْتَدَيْتُمْ بِاتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَتَرَكْتُمُونَا فِي ضَلَالِنَا وَغِوَايَتِنَا، وَلَا يَنْفَعُكُمْ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ لَنَا إِذَا لَمْ يُخَفَّفْ عَنْكُمْ عَذَابُكُمْ، فَإِنَّ كِلَانَا لَا يَشْعُرُ إِلَّا بِعَذَابِ نَفْسِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)

<<  <  ج: ص:  >  >>