للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ٤١ وَالْآيَةِ ٨٩ وَقَوْلُهُ: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) بَيَانٌ لِحَالٍ جَدِيدَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِجَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الشَّنَاعَاتِ فِي مُعَادَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُجَاحَدَتِهِ، وَهِيَ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ قَدْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ الَّذِي يُفَاخِرُونَ بِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِأَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِالْهِدَايَةِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِسِوَاهُ - نَبَذُوهُ أَنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لَهُ بِحَالِهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْبِشَارَاتِ الَّتِي فِيهِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى هَذَا الرَّسُولِ، وَمُصَدِّقٌ لَهُ بِمَقَالِهِ بِاعْتِرَافِهِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرِيعَةِ، وَتَوْبِيخِهِ الْيَهُودَ عَلَى تَحْرِيفِ بَعْضِهَا وَنِسْيَانِ بَعْضٍ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْهَا.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِنَبْذِ الْكِتَابِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ أَنَّهُمْ طَرَحُوهُ بِرُمَّتِهِ وَتَرَكُوا التَّصْدِيقَ بِهِ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُمْ طَرَحُوا جُزْءًا مِنْهُ وَهُوَ مَا يُبَشِّرُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُبَيِّنُ صِفَاتِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِيْمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ، أَيْ فَهُوَ تَشْبِيهٌ لِتَرْكِهِمْ إِيَّاهُ وَإِنْكَارِهِ بِمَنْ يُلْقِي الشَّيْءَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ حَتَّى لَا يَرَاهُ فَيَتَذَكَّرُهُ. وَتَرْكُ الْجُزْءِ مِنْهُ كَتَرْكِهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبَعْضِ يَذْهَبُ بِحُرْمَةِ الْوَحْيِ مِنَ النَّفْسِ وَيُجَرِّئُ عَلَى تَرْكِ الْبَاقِي (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (٥: ٣٢) (وَقَالَ) : وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُبَشَّرٌ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي كِتَابِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ. وَلَمْ يَضُرَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْجُحُودُ مِنَ الْفَرِيقِ الْجَاحِدِ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ قَدْ قَبِلَهَا الْآخَرُونَ وَاهْتَدَى بِهَا مَنْ لَا يُحْصَى مِنَ الْأُمَّتَيْنِ وَمِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ الْجَاحِدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا كِتَابَهُمُ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْمُنَجِّي وَالْمُخَلِّصُ لَهُمْ، وَحُرِمُوا مِنْ هِدَايَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ هِدَايَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الْعَالَمِينَ.

قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ مَا ذَكَرَ نَبْذَهُمُ الْكِتَابَ: (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ نَبَذُوهُ نَبْذَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كِتَابُ اللهِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي تَرْكِهِ وَإِهْمَالِهِ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ اللهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمْرُهُ - وَلَكِنْ طَافَ بِهِ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَغُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ -

فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَعُودَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرِيقَ النَّابِذَ لِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَشِّرٌ بِالنَّبِيِّ وَآمِرٌ بِاتِّبَاعِهِ، يَتَمَادَى بِهِمُ الزَّمَانُ وَلَا يَتُوبُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ، وَمَا أَحْسَنَ التَّعْبِيرَ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْيِ الْحَالِ وَالْاسْتِقْبَالِ دُونَ نَفْيِ الْمَاضِي.

<<  <  ج: ص:  >  >>