للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِـ " اللَّامِ " وَ " إِلَى " وَ " فِي "، وَمِنْهُ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى (١٧: ٦٩) يَعْنِي الْبَحْرَ، إِذِ الْخِطَابُ قَبْلَهُ لِمَنْ مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ مَا فِي قَوْلِهِ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ (٢٠: ٥٥) يَعْنِي الْأَرْضَ، وَالْمَعْنَى: نُقْسِمُ لَيَكُونَنَّ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: إِخْرَاجِكُمْ أَوْ عَوْدَتِكُمْ فِي الْمِلَّةِ، فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، قِيلَ: إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالْعَوْدِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْمَجْمُوعِ، فَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكُفْرِ حَتَّى قَبْلَ النُّبُوَّةِ، عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عَلَى مِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ مِلَّةِ قَوْمِهِ فَيَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ مِنَ التَّعْبِيرِ فِي شَأْنِهِ بِالْعَوْدَةِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَلَا فِي بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ أَمْرٌ سِلْبِيٌّ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ، وَلَا يَعُدُّونَهُ بِهِ خَارِجًا عَنْهُمْ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ، إِمَّا انْصِرَافًا بِالذَّاتِ أَوْ بِالْقَوْلِ وَالْعَزِيمَةِ اهـ، وَمِنْهُ ذَمُّهُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى سَبْقَ الْكَوْنِ فِيهِ وَلَا عَدَمَهُ، فَلَا حَاجَةَ إِذَنْ إِلَى تَصْحِيحِ التَّعْبِيرِ بِمَا قِيلَ مِنْ تَفْسِيرِ الْعَوْدِ بِالْمَصِيرِ، وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَيْسَ فِي الْقَوْلِ بِالتَّغْلِيبِ، وَلَا سِيَّمَا فِي جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ؟ يَعْنِي: أَنَعُودُ فِي مِلَّتِكُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ حَتَّى حَالِ الْكَرَاهَةِ لَهَا النَّاشِئَةِ عَنِ اعْتِقَادِ بُطْلَانِهَا وَقُبْحِهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَسَادِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ؟ فَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَ (لَوْ) لِلْغَايَةِ، أَوْ: أَتَأْمُرُونَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا، وَتُهَدِّدُونَنَا بِالنَّفْيِ مِنْ وَطَنِنَا، وَالْإِخْرَاجِ مِنْ دِيَارِنَا إِنْ لَمْ نَفْعَلْ، وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ؟ عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا يُحْذَفُ مُتَعَلِّقُهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ صَنِيعِهِمْ وَاسْتِنْكَارِ طَلَبِهِمْ، وَرَفْضِهِ بِدُونِ مُبَالَاةٍ، وَوَجْهُ كُلٍّ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ جَهْلُ هَؤُلَاءِ الْمَلَأِ بِكُنْهِ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ، وَكَوْنِهِ عَقِيدَةً يُدَانُ اللهُ بِهَا، وَأَعْمَالًا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِأَدَائِهَا، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهَا، وَإِنَّمَا شَرَعَهَا لِتَكْمُلَ الْفِطْرَةُ الْبَشَرِيَّةُ بِالْتِزَامِهَا، وَجَهْلُهُمْ بِكَوْنِ حُبِّ الْوَطَنِ وَإِلْفِ السَّكَنِ لَا يَبْلُغُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ وَلِجَهْلِهِمْ هَذَا ظَنُّوا أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ يُؤْثِرُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ التَّمَتُّعَ بِالْإِقَامَةِ فِي وَطَنِهِ، وَمُجَارَاةِ أَهْلِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَرَذَائِلِهِمْ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ الْمُطَهِّرُ لِلنَّفْسِ مِنْ أَدْرَانِ الْخُرَافَاتِ، وَبِالْفَضَائِلِ الْمُرَقِّيَةِ لِلنَّفْسِ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمِلَّةَ عِنْدَ أُولَئِكَ الْخَاسِرِينَ رَابِطَةٌ تَقْلِيدِيَّةٌ وَعَصَبِيَّةٌ قَوْمِيَّةٌ، يَجْرِي أَصْحَابُهَا فِيهَا عَلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ

وَمِلَّةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ دِينٌ مَالِكٌ لِلنَّفْسِ، حَاكِمٌ عَلَى الْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، يُقْصَدُ بِهِ الْكَمَالُ الْبَشَرِي الْأَعْلَى بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنْ إِقَامَتِهِ فِي وَطَنِهِ، وَإِصْلَاحِ أَهْلِهِ بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>