للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ بَدْءًا وَدَوَامًا، وَإِنْ مُنِعَ فِيهِ حُرِّيَّتَهُ فَفُتِنَ فِي دِينِهِ كَانَ تَرْكُهُ وَاجِبًا، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شُعَيْبٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ إِخْرَاجًا وَهُمْ كَارِهُونَ، كَمَا أُخْرِجَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ كَمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٩: ٢٦) وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى الْهِجْرَةَ عَلَى مَنْ يُسْتَضْعَفُ فِي أَرْضِ وَطَنِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ فِيهَا، وَيُوجِبُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْأَوْطَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْهِجْرَةَ مِنْهَا إِذَا مُنِعُوا حُرِّيَّتَهُمُ الشَّخْصِيَّةَ فِيمَا هُوَ دُونَ الدِّينِ وَالْوِجْدَانِ، بَلْ يَعِزُّ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنْ يُقِيمَ فِي وَطَنِهِ إِذَا مُنِعَ فِيهِ حُرِّيَّةَ الْفِسْقِ وَالْآثَامِ، وَرُبَّ أُنَاسٍ عَزَّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ وَطَنِهِمْ، فَآثَرُوا الْبَقَاءَ فِيهِ مَفْتُونِينَ فِي دِينِهِمْ، فَأَظْهَرُوا الْكُفْرَ لِيَأْمَنُوا عَلَى حَيَاتِهِمْ، وَظَلُّوا يُسِرُّونَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَلْقِينِهِ لِأَوْلَادِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَيْهِ فَارْتَدَّتْ ذُرِّيَّتُهُمْ عَنْهُ فِي زَمَنِهِمْ أَوْ مِنْ بَعْدِهِمْ، كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ مُسْلِمِي الْأَنْدَلُسِ بَعْدَ ثَلِّ الْأَسْبَانِيِّينَ لِعِرْضِ دَوْلَتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِكْرَاهِهِمْ عَلَى التَّنَصُّرِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَجَ بَعْضٌ وَبَقِيَ آخَرُونَ تَحْتَ وَعِيدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٤: ٩٧ - ٩٩) .

وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَمُتَعَلِّقَ الْكَرَاهَةِ هَكَذَا: قَالَ أَتُخْرِجُونَنَا مِنْ وَطَنِنَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ، وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ لِمُفَارَقَتِهِ حَرِيصِينَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ؟ وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا وَجْهَ لَهُ، فَاللَّفْظُ يَقْتَضِي تَقْدِيرَ كَرَاهَةِ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ لِحَذْفِ مُتَعَلِّقِ الْكَرَاهَةِ، وَالْمَقَامُ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُنَاسِبُ لِبَقِيَّةِ جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا

هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ أَهَمِّ الْأَمْرَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا بِالرَّفْضِ وَالْكَرَاهَةِ، وَهُوَ إِنْشَاءٌ فِي لَفْظِ الْخَيْرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا قَسَمِيًّا لِرَفْضِ دَعْوَةِ الْمَلَأِ إِيَّاهُمْ إِلَى الْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: بَرِئْتُ مِنَ الذِّمَّةِ، أَوْ مِنْ دِينِي، أَوْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَيَكُونُ مُقَابَلَةً لِقَسَمِهِمْ بِقَسَمٍ أَعْرَقَ مِنْهُ فِي التَّوْكِيدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعَجُّبًا خَرَجَ لَا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَأَكَّدَ بِقَدْ وَالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَالْمَعْنَى: مَا أَعْظَمَ افْتِرَاءَنَا عَلَى اللهِ تَعَالَى إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا، وَهَدَانَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَّبِعُ مِلَّتَكُمْ يُعَدُّ مُفْتَرِيًا عَلَى اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُ، لَا بِهِدَايَةٍ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا بُرْهَانٍ مِنَ الْعَقْلِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>