للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الشُّعَرَاءِ بِذَلِكَ كَمَا وَصَفَ مَنْ ذُكِرَ قَبْلَهُ: نُوحًا، وَهُودًا، وَصَالِحًا، وَلُوطًا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (٢٦: ١٧٦) قَالُوا: كَانُوا أَصْحَابَ غَيْضَةٍ بَيْنَ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى مَدْيَنَ إِلَخْ، فَأَفَادَ هَذَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلَ مَدْيَنَ، وَإِلَى مَنِ

اتَّصَلَ بِهِمْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَأَنَّ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كَانَتْ وَاحِدَةً، وَكَانَ يُنْذِرُهُمْ مُتَنَقِّلًا بَيْنَهُمْ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَبْعُدُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ قَدْ أَخَذَ الْفَرِيقَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، فَكَانَ عَذَابُ مَدْيَنَ بِالرَّجْفَةِ وَالصَّيْحَةِ الْمُصَاحِبَةِ لَهَا، وَعَذَابُ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ بِالسَّمُومِ، وَشِدَّةِ الْحَرِّ الَّذِي انْتَهَى بِظُلَّةٍ مِنَ السَّحَابِ، فَزِعُوا إِلَيْهَا يَبْتَرِدُونَ بِظِلِّهَا، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا بِهَا أَجْمَعُونَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ عِقَابَ الْفَرِيقَيْنِ وَاحِدٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ يُقَالُ: غَنِيَ بِالْمَكَانِ يَغْنَى بِوَزْنِ " رَضِيَ يَرْضَى " إِذَا نَزَلَ بِهِ وَأَقَامَ فِيهِ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِقَيْدٍ أَوْ قَيْدَيْنِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَغَنِيَ فِي مَكَانِ كَذَا إِذَا طَالَ مُقَامُهُ فِيهِ مُسْتَغْنِيًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَاكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِقَيْدِ طُولِ الْإِقَامَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي رَغَدِ عَيْشٍ.

وَالْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نَاقِضٌ لِقَوْلِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِمْ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ وَقَوْلِهِمْ قَبْلَهُ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا كَأَنَّ سَائِلًا يَسْأَلُ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ: كَيْفَ انْتَهَى الْأَمْرُ فِيهَا؟ وَكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أَهْلِهَا؟ فَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا وَهَدَّدُوهُ وَأَنْذَرُوهُ الْإِخْرَاجَ مِنْ قَرْيَتِهِمْ قَدْ هَلَكُوا، وَهَلَكَتْ قَرْيَتُهُمْ فَحُرِمُوهَا كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا، وَلَمْ يَعِيشُوا فِيهَا مُطْلَقًا أَوْ فِي ذَلِكَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ، وَالْأَمَدِ الْمَدِيدِ فَمَتَى انْقَضَى الشَّيْءُ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ.

وَأُجِيبَ عَنِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا، وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ يَتْبَعُهُ يَكُونُ خَاسِرًا، وَأَكَّدُوا زَعْمَهُمْ بِأَقْوَى الْمُؤَكِّدَاتِ، كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ لِمَا يَعْتَزُّونَ بِهِ مِنْ تَقَالِيدِ مِلَّتِهِمْ، وَمِنْ مَالِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، وَلِمَا كَانُوا مَوْعُودِينَ بِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَوْ آمَنُوا، دُونَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْفَائِزِينَ الْمُفْلِحِينَ، فَالْجُمْلَةُ تُفِيدُ حَصْرَ الْخَسَارِ فِي الْمُكَذِّبِينَ لَهُ بِالنَّصِّ، وَتَقْتَضِي نَفْيَهُ عَنِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِالْأَوْلَى، وَمُنَاسَبَةُ الْجَزَاءِ لِلذَّنْبِ يَجْعَلُ الْحِرْصَ عَلَى التَّمَتُّعِ بِالْوَطَنِ وَالِاسْتِبْدَادِ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ الْأَبَدِيِّ مِنْهُ، وَجَعَلَ الْحِرْصَ عَلَى الرِّبْحِ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ سَبَبًا لِلْخُسْرَانِ بِالْحِرْمَانِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ.

وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ فِي نُكْتَةِ الْفَصْلِ وَالتَّكْرَارِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَانٌ

مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْوَعْظِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، نَحْوَ: أَنْتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>