للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْقُرْآنِ، قَدْ صَارُوا أَجْهَلَ الْبَشَرِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَيَدَّعِي بَعْضُهُمْ أَنَّ سَبَبَ جَهْلِهِمُ الِانْتِمَاءُ إِلَى دِينِ الْقُرْآنِ؟ ! !

أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْمَكْرُ: صَرْفُ الْغَيْرِ عَمَّا تَقْصِدُهُ بِحِيلَةٍ، وَقَسَّمَهُ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، وَأَصَحُّ مِنْهُ وَأَدَقُّ قَوْلُنَا فِي تَفْسِيرِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣: ٥٤) وَالْمَكْرُ فِي

الْأَصْلِ: التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ الْمُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يُحْتَسَبُ، وَقْفَيْنَا عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ بِبَيَانِ السَّيِّءِ وَالْحَسَنِ مِنَ الْمَكْرِ، وَكَوْنِ الْأَكْثَرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا كَالشَّأْنِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَحَرَّى إِخْفَاؤُهَا، وَفِيهِ أَنَّ مَكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ تَدْبِيرُهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ، وَكُلُّهَا خَيْرٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنْ قَصَّرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ اهـ، وَالْمُرَادُ بِالْجَهْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ اغْتِرَارًا بِالظَّوَاهِرِ، كَأَنْ يَغْتَرَّ الْقَوِيُّ بِقُوَّتِهِ، وَالْغَنِيُّ بِثَرْوَتِهِ، وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَالْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ، فَيُخْطِئُ تَقْدِيرُهُ مَا قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى فَيَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ يَبْقَى، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَارِ فِي ظَنِّهِ لَا يَتَخَلَّفُ، كَمَا أَخْطَأَ الْأَلْمَانُ فِي تَقْدِيرِ قُوَّتِهِمْ وَقُوَّةِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنَ الدُّوَلِ، فَلَمْ يَحْسَبُوا أَنْ تَكُونَ دَوْلَةُ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَكَانَ سَبَبَ أَمْنِهِمْ إِتْيَانَ بَأْسِنَا بَيَاتًا أَوْ ضُحًى وَهُمْ غَافِلُونَ أَنَّهُمْ أَمِنُوا مَكْرَ اللهِ بِهِمْ بِإِتْيَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَلَمْ يُقَدِّرُوا؟ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ؟ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَإِذَا كَانَ أَمْنُ الْعَالِمِ الْمُدَبِّرِ وَالصَّالِحِ الْمُتَعَبِّدِ مِنْ مَكْرِ اللهِ تَعَالَى جَهْلًا يُورِثُ الْخُسْرَ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ، وَهُوَ مُسْتَرْسِلٌ فِي مَعَاصِيهِ اتِّكَالًا عَلَى عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؟ قَالَ تَعَالَى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤١: ٢٣) فَأَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ وَأَعْبَدُهُمْ لَهُ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ هُمْ أَبْعَدُ خَلْقِهِ عَنِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِهِ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْمَنَ مِنْهُ إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِعِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا لِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (٢٠: ١١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الرُّسُلِ الْكِرَامِ كَيْفَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ مَشِيئَتَهُ حَتَّى فِيمَا عَصَمَهُمْ مِنْهُ؟ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ قُبَيْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا وَقَدْ كَانَ أَصْلَحُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَدْعُونَهُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ

(٣: ٨) وَقَالَ: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (٣٥: ٢٨) وَيُقَابِلُ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ ضِدَّهُ، وَهُوَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ تَتْبَعُهَا مَفَاسِدَ كَثِيرَةً.

<<  <  ج: ص:  >  >>