للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَجِدُونَ فَوَائِدَهَا إِلَّا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ، وَأَعْجَبُ لِلْإِمَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ كَيْفَ غَفَلَ عَنْهَا إِذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْلِهَا.

وَحِكْمَةُ بِدْءِ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ نَتِيجَتِهَا، وَالْعِبْرَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا وَهِيَ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ ـ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَهَا، مِنْ حَيْثُ إِهْلَاكُ مُعَانِدِي الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ جُحُودًا وَاسْتِكْبَارًا، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ بَعْدَ جُمْلَةِ تِلْكَ الْقَصَصِ لِتَشَابُهِهَا مَبْدَأً وَغَايَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّةُ مُوسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ طَوِيلَةٌ فَهِيَ تُسَاوِيهَا فِي هَذَا مِنْ حَيْثُ رِسَالَتُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَطْ، وَفِيهَا عِبَرٌ أُخْرَى فِيمَا تَشَابَهَ بِهِ أَمْرُ خَاتَمِ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ حَيْثُ إِرْسَالُهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِرْسَالُ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ إِلَى الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْبَشَرِ، وَتَوْفِيقُ اللهِ قَوْمَهُمَا لِلْإِيمَانِ وَنَشْرِ شَرِيعَتِهِمَا فِيمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِمْ، إِلَى آخِرِ

مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي نُكْتَةِ عَطْفِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا بِـ " ثُمَّ "، وَنُكْتَةِ التَّعْبِيرِ بِـ " بَعَثْنَا " وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَوَاخِرَهَا تَبْشِيرَ مُوسَى وَكَذَا عِيسَى بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْخَاتَمِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَقَدْ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ عَنِ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِذْ يَقُولُونَ: أَنْتَ حَقِيقُ كَذَا، وَأَنْتَ حَقِيقٌ بِأَنْ تَفْعَلَ كَذَا، كَمَا يَقُولُونَ: أَنْتَ جَدِيرٌ بِهِ وَخَلِيقٌ بِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمُ اسْتِعْمَالُهُ بِـ " عَلَى " وَلَكِنْ وَرَدَ فِي كَلَامِهِمُ اسْتِعْمَالُ " عَلَى " بِمَعْنَى الْبَاءِ كَقَوْلِهِمْ: ارْكَبْ عَلَى اسْمِ اللهِ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَعْنَى السَّابِعِ مِنْ مَعَانِي " عَلَى " الْجَارَّةِ، وَأَيَّدَهُ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ وَمِثْلُهَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَقِيقٌ أَنْ لَا أَقُولَ. . .؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ أَنَّ الْجَارَّ الْمَحْذُوفَ مِنْ أَنَّ هُوَ الْيَاءُ، وَحَذْفُ الْجَارِ مِنْ " أَنْ " الْخَفِيفَةِ وَ " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةِ قِيَاسِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الِاخْتِيَارِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ: مَعْنَاهُ حَقِيقٌ بِأَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ؛ أَيْ: جَدِيرٌ بِذَلِكَ وَحَرِيٌّ بِهِ، قَالُوا: وَ " الْبَاءُ " وَ " عَلَى " يَتَعَاقَبَانِ، يُقَالُ: رُمِيتُ بِالْقَوْسِ، وَعَلَى الْقَوْسِ، وَجَاءَ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، وَبِحَالٍ حَسَنَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ حَرِيصٌ عَلَى أَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ اهـ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ حَقِيقًا قَدْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحِرْصِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ الْمُفَسِّرِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ التَّضْمِينَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِي لِلْكَلِمَةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْهُ التَّعْدِيَةُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْعِبَارَةِ: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ وَجَدِيرٌ بِأَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَحَرِيصٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَنْ أُخِلَّ بِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاقِ فِي وَصْفِ مُوسَى نَفْسَهُ بِالصِّدْقِ حَتَّى جُعِلَ قَوْلُ الْحَقِّ كَأَنَّهُ يَسْعَى لِيَكُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>