للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَظِيمًا وَإِنَّكُمْ مَعَ ذَلِكَ الْأَجْرِ الْمَالِيِّ وَالْمَادِّيِّ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ جَانِبِنَا السَّامِي، فَيَجْتَمِعُ لَكُمُ الْمَالُ وَالْجَاهُ، وَذَلِكَ مُنْتَهَى الدُّنْيَا وَمَجْدِهَا، أَكَّدَ لَهُمْ نَيْلَ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، وَمَا زَادَهُمْ عَلَيْهِ تَأْكِيدًا بَعْدَ تَأْكِيدٍ؛ لِاهْتِمَامِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَخَوْفِهِمْ مِنْ عَاقِبَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: نَعَمْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا؛ لَأَفَادَ إِجَابَةَ طَلَبِهِمْ، وَلَوْ قَالَ فِي مِنْحَةِ الْقُرْبَى: وَتَكُونُونَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، لَكَفَى، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ بِـ (إِنَّ) وَبِتَحْلِيَةِ الْخَبَرِ بِاللَّامِ، وَبِعَطْفِ التَّلْقِينِ؛ أَيْ عَطْفِ: " وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " عَلَى

الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا حَرْفُ الْإِيجَابِ " نَعَمْ " وَهِيَ " إِنَّ لَكُمْ لَأَجْرًا " الْحَالَةُ وَهِيَ كَوْنُكُمْ أَنْتُمُ الْغَالِبِينَ دُونَ مُوسَى لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٢٦: ٤٢) وَحَذْفُهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهَا مَرَّةً دُونَ أُخْرَى فَأَفَادَ أَنَّهُ كَرَّرَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ وَالْوَعْدَ وَذَلِكَ تَأْكِيدٌ آخَرُ.

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَنَظَائِرِهِ؛ أَيْ: قَالَ الْسَّحَرَةُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ وَعَدَهُمْ فِرْعَوْنُ مَا وَعَدَهُمْ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مَا عِنْدَكَ أَوَّلًا، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لِمَا عِنْدَنَا مِنْ دُونِكَ، أَمَّا تَخْيِيرُهُمْ إِيَّاهُ فَلِثِقَتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِدَادِهِمْ بِسِحْرِهِمْ، وَإِرْهَابًا لَهُ، وَإِظْهَارًا لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَكُونُ أَبْصَرَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ بَعْدَ وُقُوفِهِ عَلَى مُنْتَهَى شَوْطِ خَصْمِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ عِلَّةَ التَّخْيِيرِ مُرَاعَاةُ الْأَدَبِ لَا وَجْهَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ مَقَامُهُمْ بِحَضْرَةِ مَلِكِهِمُ الَّذِي يَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ فِيهِمْ، وَمَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، وَمَا وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ - كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَحْتَقِرُوا خَصْمَهُ لَا أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ كَمَا يَتَأَدَّبُ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ إِذَا تَلَاقَوْا لِلْمُبَارَاةِ، وَهُوَ مَا وَجَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهِ التَّعْلِيلَ، وَمَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ عِلَّتَهُ إِظْهَارُ التَّجَلُّدِ فَضَعِيفٌ، إِذْ لَمْ يَرَوْا مِنْ مُوسَى شَيْئًا بِأَعْيُنِهِمْ يَقْتَضِيهِ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا أَنَّهُ أَلْقَى عَصَاهُ بِحَضْرَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا فَاسْتَعَدُّوا لِمُقَابَلَتِهِ بِعِصِيٍّ وَحِبَالٍ كَثِيرَةٍ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ وَإِلَى كُلِّ نَاظِرٍ أَنَّهَا ثَعَابِينُ تَسْعَى فَيُبْطِلُونَ سِحْرَهُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ كَمَا قَالَ مَلِكُهُمْ: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ (٢٠: ٥٨) .

وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ عَنْ إِلْقَائِهِمْ يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي الْبَدْءِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ تَغْيِيرُهُمْ لِلنَّظْمِ بِتَعْرِيفِ الْخَبَرِ وَتَوْسِيطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ " نَحْنُ " وَتَوْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ بِهِ، وَفِي سُورَةِ طَهَ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٢٠: ٦٥) وَفِيهِ مِنَ التَّوْكِيدِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي صَرَّحُوا بِذِكْرِهَا هُنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ فِي الْمَعْنَى، فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ بِجَعْلِ الِاخْتِلَافِ اللَّفْظِيِّ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ " ثَالِثُهَا " وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ: أَنَّهُ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ فِيمَا لَا يَخِلُّ بِأَدَاءِ الْمَعْنَى، وَلَا يُنَافِي الْبَلَاغَةَ الْعُلْيَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَزِيدَ تَفَنُّنٍ قَدْ يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ تَأْدِيَةَ دَقَائِقِ الْمَعْنَى مُكَرَّرَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي مُنْتَهَى الْعُسْرِ، وَكَثِيرًا

مَا يَكُونُ مُتَعَذِّرًا، فَلَوْ لَمْ يُؤَكَّدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>