للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَادُوهُ، وَلَيْسَ شَيْئًا مَادِّيًّا أَوْجَدُوهُ، كَمَا عُلِمَ مِنْ سُورَةِ طَهَ وَسُورَةِ يُونُسَ؛ أَيْ: فَثَبَتَ الْحَقُّ وَفَسَدَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّخْيِيلِ وَذَهَبَ تَأْثِيرُهُ.

فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ أَيْ: فَغُلِبَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ فِي عِيدٍ لَهُمْ وَيَوْمِ زِينَةٍ مِنْ مَوَاسِمِهِمْ، ضَرَبَهُ مُوسَى مُوعِدًا لَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ كَمَا بَيَّنَ فِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمَ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٢٠: ٥٩) لِتَكُونَ الْفَضِيحَةُ ظَاهِرَةً مُبَيَّنَةً لِجَمَاهِيرِ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ فَغَلَبَهُمْ مُوسَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِ وَصُنْعِهِ. وَانْقَلَبُوا؛ أَيْ: عَادُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمَعِ صَاغِرِينَ أَذِلَّةً بِمَا رُزِئُوا بِهِ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْخَيْبَةِ، أَوْ صَارُوا صَاغِرِينَ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا بِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَكَانَ الْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ لِلسَّحَرَةِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَلِفِرْعَوْنَ بِالتَّبَعِ أَوْ لِلْجَمِيعِ عَلَى سَوَاءٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ السَّحَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ فَسَّرَهُ الْكَشَّافُ بِقَوْلِهِ: وَخَرُّوا سُجَّدًا كَأَنَّمَا أَلْقَاهُمْ مُلْقٍ؛ لِشِدَّةِ خَرُورِهِمْ، وَقِيلَ: لَمْ يَتَمَالَكُوا مِمَّا رَأَوْا فَكَأَنَّهُمْ أَلْقَوْا اهـ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ظُهُورَ بُطْلَانِ سِحْرِهِمْ، وَإِدْرَاكَهُمْ فَجْأَةً لِحَقِيقَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِلْمَهُمْ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ قَدْ مَلَأَتْ عُقُولَهُمْ يَقِينًا وَقُلُوبَهُمْ إِيمَانًا فَكَانَ هَذَا الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ الْبُرْهَانِيِّ الْكَامِلِ، وَالْوِجْدَانِيِّ الْحَاكِمِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ هُوَ الَّذِي أَلْقَاهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ سُجَّدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يَبْقَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَدْنَى مَكَانٍ لِفِرْعَوْنَ وَعَظَمَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ صَغَارُهُ أَمَامَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي آيَةِ سُورَةِ طَهَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٢٠: ٧٠) فَالْفَاءُ

تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.

(فَإِنْ قِيلَ) : وَلِمَ قَالَ هُنَا " وَأُلْقِيَ " وَلَمْ يَقَلْ " فَأُلْقِيَ " لِيَدُلَّ عَلَى التَّعْقِيبِ أَيْضًا؟ (فَالْجَوَابُ) أَنَّ " أُلْقِيَ " هُنَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَغُلِبُوا فَهُوَ يُشَارِكُهُ بِمَا تُفِيدُهُ فَاؤُهُ مِنْ مَعْنَى التَّعْقِيبِ، وَكَوْنِهِ مِثْلَهُ أَثَرًا لِبُطْلَانِ سِحْرِ السَّحَرَةِ، وَوُقُوعِ الْحَقِّ بِثُبُوتِ آيَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ عَطَفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ لَدَلَّ عَلَى كَوْنِ السُّجُودِ أَثَرًا لِلْغَلَبِ وَالصَّغَارِ لَا لِظُهُورِ الْحَقِّ، وَبُطْلَانِ كَيَدِ السِّحْرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُنَافِيًا لِمَا فِي سُورَتَيْ طَهَ وَالشُّعَرَاءِ.

قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ الْجُمْلَةُ إِمَّا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَإِمَّا حَالٌ مِنَ السَّحَرَةِ؛ أَيْ: حَالُ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ فِي سُجُودِهِمْ آمَنَّا، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.

(فَإِنْ قِيلَ) : وَلِمَ لَمْ يَذْكَرْ فِي سُورَةِ طَهَ إِيمَانَهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟ وَلِمَ أَخَّرَ فِيهَا اسْمَ مُوسَى، وَقَدَّمَ اسْمَ هَارُونَ؟ (فَالْجَوَابُ) عَنْهُمَا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مُرَاعَاةُ فَوَاصِلِ السُّوَرِ بِمَا لَا يُعَارِضُ غَيْرَهُ مِمَّا وَرَدَ فِي غَيْرِهَا، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ نَزَلَ قَبْلَهَا، فَالْإِيمَانُ بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى هُوَ الْإِيمَانُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُمَا قَالَا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢٦: ١٦) وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْقُرْآنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>