للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكَذِبِهِ فِي دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَصْرِيحُ وَإِيثَارُ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٦: ٥٠، ٥١) وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَلَا يُنَافِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَوَّلَ.

وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا قَالَ الرَّاغِبُ: نَقِمْتُ الشَّيْءَ وَنَقَمْتُهُ أَيْ - مِنْ بَابَيْ فَرِحَ وَضَرَبَ - إِذَا أَنْكَرْتُهُ إِمَّا بِاللِّسَانِ وَإِمَّا بِالْعُقُوبَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ (٩: ٧٤) ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ (٨٥: ٨) هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا (٥: ٥٩) الْآيَةَ. وَالنِّقْمَةُ: الْعُقُوبَةُ، قَالَ: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (٧: ١٣٦) إِلَخْ. وَتَفْسِيرُهُ هَذَا لِـ " نَقَمَ " أَدَقُّ وَأَشْمَلُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْأَسَاسِ: وَنَقِمْتُ مِنْهُ كَذَا: أَنْكَرْتُهُ وَعِبْتُهُ. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الْقَوْلِيَّ مِنْهُ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا (٨٥: ٨) وَهُوَ فِي أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَكَانَ النَّقْمُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَغْفُلُ. وَمَا ذَكَرَهُ السَّحَرَةُ مِنْ نَقْمِ فِرْعَوْنَ مِنْهُمْ كَانَ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِنْكَارُ التَّوْبِيخِيُّ لِإِيمَانِهِمْ، وَالتُّهْمَةُ فِيهِ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَفَّذَ الْوَعِيدَ بِالِانْتِقَامِ بِالْفِعْلِ، وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا لَغَالِبُونَ (٢٨: ٣٥) أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَنْفِيذِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُرَادَ الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَفِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَنِهَايَتِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِنَتِيجَتِهَا، وَوَجْهُ الْعِبْرَةِ فِيهَا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ فِي قِصَّتِهِ الَّتِي مَرَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَوْلِهِ قَبْلَهُ فِي قِصَّةِ لُوطٍ مِنْهَا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُكَذِّبِي الرُّسُلِ عَامَّةً بَعْدَ ذِكْرِ تَكْذِيبِ قَوْمِ خَاتَمِ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:

كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (١٠: ٣٩) وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَنِ اتَّبَعَ مُوسَى وَهَارُونَ قَوْمُهُمَا خَاصَّةً، وَهُمُ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ مُوسَى بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ بَعْدَ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ عَقِبَ خَبَرِ السَّحَرَةِ، وَهُوَ مَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَهَذِهِ الْعَاقِبَةُ قَدْ بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: فَأَخَذْنَاهُ يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٢٨: ٤٠) ، وَقَدْ خَتَمَ تَعَالَى مَا قَصَّهُ هُنَا مِنْ كَلَامِ السَّحَرَةِ بِهَذَا الدُّعَاءِ فَنَذْكُرُهُ تَالِينَ دَاعِينَ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ أَيْ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا صَبْرًا وَاسِعًا تُفِيضُهُ وَتُفْرِغُهُ عَلَيْنَا إِفْرَاغًا بِتَثْبِيتِكَ إِيَّانَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَأْيِيدِنَا بِرُوحِكَ فِيهِ كَمَا يُفْرَغُ الْمَاءُ مِنَ الْقِرَبِ، حَتَّى لَا يَبْقَى

<<  <  ج: ص:  >  >>