للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَثَرُهُ فِي السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مُطْلَقًا بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوا، فَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْقُرُونِ الْأَوْلَى، وَأَقْوَامِ رُسُلِهِمْ وَعَلَى مَنْ سَيَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَحَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ، فَقَدْ سَأَلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنِ الْقُرُونِ الْأُولَى فَقَالَ: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي (٢٠: ٥٢) وَالْقُرُونُ الْآخِرَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ لِغَنِيٍّ أَوْ عَالِمٍ إِنَّكَ أَغْنَى أَوْ أَعْلَمُ النَّاسِ، أَوْ لِمَلِكٍ: إِنَّكَ أَقْوَى الْمُلُوكِ، أَوْ فِي شَعْبٍ إِنَّهُ أَرْقَى الشُّعُوبِ - فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَفْهَمُ مِنْ مِثْلِ هَذَا تَفْضِيلَ مَنْ ذَكَرَ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَأَهْلُ الْحَضَارَةِ فِي زَمَانِنَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَجْيَالَ الْآتِيَةَ سَيَكُونُونَ خَيْرًا مِنْ هَذَا الْجِيلِ، وَكَانَ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ سَتَرْتَقِي إِلَى أَنْ تَكْمُلَ بِرِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَلَكِنَّهُ أُوتِيَ هَذَا الْعِلْمَ بِمَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ نَزَلَ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مَظَاهِرِهِ الْحَدِيثَةِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَائَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ) عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَقُولِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطْعًا وَالْبَاقُونَ (أَنْجَيْنَاكُمْ) وَذَكَرُوا فِيهِ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مُتَمِّمًا لِكَلَامِ مُوسَى، وَمُبِيِّنًا الْمُرَادَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْحِكَايَةِ عَنْهُ، وَلِهَذَا الِالْتِفَاتُ نَظَائِرُ فِي التَّنْزِيلِ وَفِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ سُورَةِ طه: الَّذِي جَعَلَ

لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٢٠: ٥٣) إِلَخْ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ مُوسَى فِي جَوَابِ فِرْعَوْنَ، وَقَوْلُهُ: (فَأَخْرَجْنَا) الْتِفَاتٌ عَنِ الْحِكَايَةِ، وَانْتِقَالٌ إِلَى كَلَامِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ خَاطَبَ بِهِ مَنْ أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْوَحْيَ مِنْ خَلْقِهِ، تَنْبِيهًا لَهُمْ بِتَلْوِينِ الْكَلَامِ، وَبِمَا فِي مُخَاطَبَةِ الرَّبِّ لَهُمْ كِفَاحًا مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ إِلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمُسْدِي لِهَذَا الْإِنْعَامِ، وَاقْتَصَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَادَتْ قِرَاءَةُ ابْنُ عَامِرٍ أَنَّ مُوسَى قَالَهَا لِقَوْمِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَفَادَتْ قِرَاءَةُ الْآخَرِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَّرَ بِهَا قَوْمَ مُوسَى فِي زَمَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ وَهِيَ مِنْ إِعْجَازِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ.

(الثَّانِي) أَنَّ قِرَاءَةَ الِالْتِفَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَايَةِ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْنَدَ الْإِنْجَاءَ فِيهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مَعَ حَذْفِ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ أَوْ بِدُونِهِ أَوْ إِلَى نَفْسِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَخِيهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى جَعْلِهِ - تَعَالَى - هَذَا الْإِنْجَاءَ بِسَبَبِ رِسَالَتِهِمَا وَتَأْيِيدِهِ - تَعَالَى - لَهُمَا بِتِلْكَ الْآيَاتِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>