للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جَدِيدٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَقَالُوا: إِنَّ (أَمْ) هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ لَا لِلْإِضْرَابِ؛ لِأَنَّ أَمِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى (بَلْ) يُقْصَدُ بِهَا الْإِضْرَابُ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَلَا يَظْهَرُ الْإِضْرَابُ هُنَا. هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ قَوْلِهِمْ.

(قَالَ) : وَاسْتَشْهَدُوا لِ (أَمِ) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

فَوَاللهِ لَا أَدْرِي أَهِنْدٌ تَقَوَّلَتْ ... أَمِ الْقَوْمُ أَمْ كُلٌّ إِلَيَّ حَبِيبُ؟

وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ (أَمْ) هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالسَّابِقِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ، فَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْإِضْرَابَ وَالِاسْتِفْهَامَ مَعًا، وَتَجِدُ (الْجَلَالَيْنِ) يُقَدِّرَانِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِمَا وَقَدْ قَدَّرَا فِيهِ هُنَا " بَلْ أَتُرِيدُونَ "، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سَأَلَ مُوسَى قَوْمُهُ تَبَرُّمًا وَإِعْنَاتًا؟ يُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَعَلَ أُولَئِكَ، وَقَدْ أَتْبَعَ التَّحْذِيرَ بِالْوَعِيدِ فَقَالَ: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أَيْ إِنَّ تَرْكَ الْآيَاتِ الْمَوْجُودَةِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا لِإِعْنَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسُؤَالِ غَيْرِهَا لِتَكُونَ بَدَلًا مِنْهَا هُوَ مِنِ اخْتِيَارِ الْكُفْرِ عَلَى الْإِيْمَانِ وَاسْتِحْبَابِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى. وَبَدَّلَ وَتَبَدَّلَ وَاسْتَبْدَلَ يَدُلُّ عَلَى جَعْلِ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِ آخَرَ بَدَلًا مِنْهُ، وَالْبَاءُ تُقْرَنُ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ لَا بِالْبَدَلِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (٢: ٦١) .

(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : هَذَا تَقْرِيرُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَاتِ، وَإِذَا وَازَنَّا بَيْنَ سِيَاقِ آيَةِ (مَا نَنْسَخْ) وَآيَةِ (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) ، نَجِدُ أَنَّ الْأُولَى خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَالثَّانِيَةَ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) (١٦: ١٠١) الْآيَةَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ شِدَّةَ الْعِنَايَةِ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ بِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتِ، فَذِكْرُ الْعِلْمِ وَالتَّنْزِيلِ وَدَعْوَى الِافْتِرَاءِ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ بِالْآيَاتِ فِيهَا آيَاتُ الْأَحْكَامِ.

وَأَمَّا ذِكْرُ الْقُدْرَةِ وَالتَّقْرِيرُ بِهَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَلَا يُنَاسِبُ مَوْضُوعَ الْأَحْكَامِ وَنَسْخِهَا، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ هَذَا ذِكْرَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَوْ قَالَ: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، لَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ أَرَادَ نَسْخَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ مِنِ انْتِهَاءِ الزَّمَنِ أَوِ الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا تِلْكَ الْأَحْكَامُ مُوَافِقَةً لِلْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ تَحَيَّرَ الْعُلَمَاءُ فِي فَهْمِ

الْإِنْسَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَعْنَى (نُنْسِهَا) نَتْرُكُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ، وَأَنْتَ تَرَى هَذَا - وَإِنْ صَحَّ لُغَةً - لَا يَلْتَئِمُ مَعَ تَفْسِيرِهَا؛ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْإِتْيَانِ بِخَيْرٍ مِنْهَا مَعَ تَرْكِهَا عَلَى حَالِهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، (قَالَ) : وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ السِّيَاقِ إِلَى آخِرِهِ أَنَّ الْآيَةَ هُنَا هِيَ مَا يُؤَيِّدُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَيْ (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) نُقِيمُهَا دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ نُزِيلُهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>