للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْغَوَّاصِينَ عَلَى نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي تَقْدِيمِ النَّدَمِ فِي الذِّكْرِ عَلَى تَبَيُّنِ الضَّلَالَةِ، مَعَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْدَمَ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَقَالَ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ مَا مَعْنَاهُ مُوَضِّحًا: إِنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْجَزْمِ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ أَوِ الْأَمْرَ

حَقٌّ إِلَى اسْتِبَانَةِ الْجَزْمِ بِضِدِّهِ أَوْ نَقِيضِهِ لَا يَكُونُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي الْأَغْلَبِ، بَلِ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْجَزْمِ بِصِحَّتِهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ إِلَى الشَّكِّ فِيهَا ثُمَّ إِلَى الظَّنِّ بِالضِّدِّ أَوِ النَّقِيضِ، ثُمَّ إِلَى الْجَزْمِ بِهِ، ثُمَّ إِلَى تَبَيُّنِهِ وَالْيَقِينِ فِيهِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ صَوَابٌ، وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ رُبَّمَا وَقَعَ لَهُمْ حَالَ الشَّكِّ فِيهِ، فَيَكُونُ تَبَيُّنُ الضَّلَالِ مُتَأَخِّرًا عَنِ النَّدَمِ اهـ.

وَأَقُولُ: جَاءَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ الْمُفَصَّلِ مِنْ سُورَةِ طَه أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَارُونُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِبَادَةَ الْعِجْلِ، وَذَكَّرَهُمْ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ لِلرَّبِّ وَحْدَهُ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٢٠: ٩١) فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَأَنَّبَ هَارُونَ (قَالَ) فِيمَا قَالَهُ لَهُ: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٢٠: ٩٢، ٩٣) لَكَ (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٧: ١٤٢) فَعِنْدَ تَصْرِيحِ مُوسَى بِأَنَّهُمْ ضَلُّوا، وَرُؤْيَتِهِمْ مَا كَانَ مِنْ غَضَبِهِ وَإِلْقَائِهِ بِالْأَلْوَاحِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ وَلِحْيَتِهِ وَجَرِّهِ إِلَيْهِ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّدَمُ عَنْ تَقْلِيدٍ وَطَاعَةٍ لِمُوسَى لَا عَنْ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ بِأَنَّ عَمَلَهُمْ ضَلَالٌ، فَالرَّاجِحُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَدْ حَصَلَ بَعْدَ تَحْرِيقِ مُوسَى لِلْعِجْلِ، وَنَسْفِهِ فِي الْيَمِّ.

فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ أَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَمِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ مَا لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهِ بِزَمَانٍ وَلَا رُتْبَةٍ أَنْ يُقَدَّمَ فِي سَرْدِهِ وَفِي نَسَقِهِ الْأَهَمُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْدِيمُ النَّدَمِ هُنَا لِسَبْقِهِ فِي الزَّمَنِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِشْعَارِهِمُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُمْ عَلَى نَدَمِهِمْ وَتَوْبَتِهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا مَحْوُ الذَّنْبِ وَتَرْكُ الْعِقَابِ، وَعَلَى كَوْنِهِمْ صَارُوا عَلَى عِلْمٍ يَقِينِيٍّ بِبُطْلَانِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَوُجُوبِ تَخْصِيصِ الرَّبِّ بِالْعِبَادَةِ - قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الْمَغْفِرَةِ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالضَّلَالِ وَحْدَهُ لَا يَقْتَضِي الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ إِلَّا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ؛ وَهُوَ التَّوْبَةُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِالْعَمَلِ، فَإِنَّ الَّذِينَ ضَلُّوا عَلَى عِلْمٍ وَلَمْ يَتُوبُوا؛ أَشَدُّ النَّاسِ عِقَابًا - فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيمَ النَّدَمِ أَهَمُّ مِنَ الْعِلْمِ بِالضَّلَالِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ الَّذِي لَمْ نَرَهُ لِأَحَدٍ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْهُ وَجْهُ تَقْدِيمِ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَلَى ذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ أَنَّهَا سَبَبُهَا، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ لَا يَكْفِيَانِ لِلْمَغْفِرَةِ بِدُونِهَا، وَلَا غَرْوَ فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ " قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ

<<  <  ج: ص:  >  >>