للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِإِيتَائِهِ السَّبْعَ الْمَثَانِ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالصَّدْعِ بِهِ، وَتَهْوِينِ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْبَائِهِ بِكِفَايَتِهِ تَعَالَى أَمْرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْهُمْ. بَعْدَ هَذَا قَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (١٥: - ٩٧ - ٩٩) وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ الْمَوْتُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَنَقَلُوا شَوَاهِدَ لَهُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ. وَفَسَّرُوا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ النَّارِ: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٧٤: ٤٦، ٤٧) .

(ثَانِيًا) إِنَّ أَصْلَ الْيَقِينِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ فَالْيَقِينُ فِي الْإِسْلَامِ مَبْدَأٌ لَا غَايَةٌ، وَالْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ تَلْقَى هَذَا التُّرْكِيُّ الدِّينَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ ; لِأَنَّ التَّصْدِيقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ يَقِينًا لَا يَكُونُ إِيمَانًا، وَلَيْسَ فَوْقَ الْيَقِينِ غَايَةٌ تَكُونُ هِيَ الزِّيَادَةَ، وَفِي هَذَا الْبَحْثِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ.

(ثَالِثًا) إِنَّ الْيَقِينَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ تَصْدِيقُ الْإِنْسَانِ فِي الدِّينِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْإِتْيَانِ وَنَحْوِهُ كَالْمَجِيءِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ، وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ

بِهِ عَمَّا يَرُدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْخَارِجِ بِذَاتِهِ أَوْ بِأَسْبَابِهِ كَالْمَوْتِ وَالْعِلْمِ الْخَبَرِيِّ، أَوِ الْمُنْتَزَعِ مِنَ الْمَعْلُومِ الْخَارِجِيِّ، دُونَ نَتِيجَةِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ كَقَوْلِهِ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ (١٤: ١٧) وَقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (٦٣: ١٠) وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (٦: ٦١) .

وَنَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الِاسْتِطْرَادِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مَا يُدَافِعُ بِهِ عَنْهُ، بَلْ هُوَ مِنْ مَقَاصِدَ التَّفْسِيرِ لَا مِنَ الِاسْتِطْرَادِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ. وَمَا ضَعُفَ اهْتِدَاءُ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ إِلَّا بِخُلُوِّ تَفْسِيرِهِ مِنْ تَطْبِيقِ عَقَائِدِهِ وَأَحْكَامِهِ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَدَفْعِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تَصُدُّهُمْ عَنْهُ.

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ بَيَّنَ تَعَالَى فِي الِاسْتِطْرَادِ الْخَاصِّ بِنُبُوَّةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كِتَابَةِ رَحْمَتِهِ لِلَّذِينِ يَتْبَعُونَهُ مِنْ قَوْمِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَالَ فِي مُتَّبِعِيهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ: دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ بَعْدَ بَعْثَتِهِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ. وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُتَّبِعِينَ لِمُوسَى حَقَّ الِاتِّبَاعُ قَبْلَ بَعْثَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى هُدًى وَحَقٍّ وَعَدْلٍ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، فَإِنَّ مَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مِنَ الْحَصْرِ إِضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ كَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>