للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(فَإِنْ قُلْتَ) : الْأُمَّةُ الَّذِينَ قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ؟ مَنْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ هُمْ؟ أَمِنَ فَرِيقِ النَّاجِينَ أَمِ الْمُعَذَّبِينَ؟ (قُلْتُ) : مِنْ فَرِيقِ النَّاجِينَ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ فَرِيقِ النَّاهِينَ، وَمَا قَالُوا مَا قَالُوا إِلَّا سَائِلَيْنِ عَنْ عِلَّةِ الْوَعْظِ وَالْغَرَضِ فِيهِ، حَيْثُ لَمْ يَرَوْا فِيهِ غَرَضًا صَحِيحًا لِعِلْمِهِمْ بِحَالِ الْقَوْمِ، وَإِذَا عَلِمَ النَّاهِي حَالَ الْمَنْهِيِّ، وَأَنَّهُ النَّهْيُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، سَقَطَ عَنْهُ النَّهْيُ، وَرُبَّمَا وَجَبَ التَّرْكُ لِدُخُولِهِ فِي بَابِ الْعَبَثِ. أَلَّا تَرَى أَنَّكَ لَوْ ذَهَبْتَ إِلَى الْمَكَّاسِينَ الْقَاعِدِينَ عَلَى الْمَآصِرِ، وَالْجَلَّادِينَ الْمُرَتَّبِينَ لِلتَّعْذِيبِ، لِتَعِظَهُمْ وَتَكُفَّهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا مِنْكَ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا سَبَبًا لِلتَّلَهِّي بِكَ. وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَإِنَّمَا لَمْ يُعْرِضُوا عَنْهُ إِمَّا ; لِأَنَّ يَأْسَهُمْ لَمْ يَسْتَحْكِمْ كَمَا اسْتَحْكَمَ يَأْسُ الْأَوَّلِينَ، وَلَمْ يَخْبَرُوهُمْ كَمَا خَبَرُوهُمْ. أَوْ لِفَرْطِ حَصْرِهِمْ، وَجَدِّهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، كَمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ (١٨: ٦) اهـ.

أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ سُقُوطِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ وُجُوبِ تَرْكِهِ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ مِنْ تَأْثِيرٍ مَرْجُوحٍ وَلَاسِيَّمَا إِذَا أَخَذَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَأْنُ أَضْعَفِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكِرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَإِنَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الْحَالَةُ أَضْعَفَ الْإِيمَانِ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ مَا قَبْلَهَا، فَإِنِ اسْتَطَاعَ النَّهْيَ، وَسَكَتَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ مُطْلَقًا ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِي هَؤُلَاءِ السَّاكِتِينَ،

الْمُحْتَمِلَةُ حَالُهُمْ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِهِ، وَالْيَأْسُ قَلَّمَا يَنْشَأُ إِلَّا مِنْ ضَعْفٍ فِي النَّفْسِ أَوِ الْإِيمَانِ، وَكَأَيِّنٍ مِنْ مِكَّاسٍ وَجَلَّادٍ وَمُدْمِنِ خَمْرٍ تَابَ وَأَنَابَ، وَالْمُحَقِّقُونَ لَمْ يَجْعَلُوا احْتِمَالَ الْأَذَى وَلَا يَقِينَهُ مُوجِبًا لِتَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا لِتَفْضِيلِهِ عَنِ الْفِعْلِ بَلْ قَالُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْجَوَازِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَفْضِيلِ النَّهْيِ بِحَدِيثِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ.

وَفِي (بَئِيسٍ) عِدَّةُ قِرَاءَاتٍ أُخْرَى بَيْنَ مُتَوَاتِرَةٍ وَشَاذَّةٍ، تَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَصْلِ صِيغَتِهِ، وَعَلَى لُغَاتِ الْعَرَبِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَهْمُوزِ: فَقَرَأَهَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ " بَئْيَسٍ " بِوَزْنِ ضَيْغَمٍ - وَابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَصْلُهُ بِئْسَ بِوَزْنِ حِذْرَ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى الْفَاءِ لِلتَّخْفِيفِ كَكَبِدٍ فِي كِبْدٍ، وَنَافِعٌ " بِيسٍ " عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءُ كَذِئْبٍ وَذِيبٍ أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ الذَّمِّ وُصِفَ بِهِ فَجُعِلَ اسْمًا، وَمِنَ الشَّوَاذِّ " بَيِّسٍ " كَرَيِّسٍ عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَإِدْغَامِهَا، وَ " بَيْسٍ " كَهَيْنٍ عَلَى تَخْفِيفِ الْمُشَدِّدَةِ، وَ " بَائِسٍ " بِوَزْنٍ فَاعِلٍ.

فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ أَيْ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ عُتُوَّ إِبَاءٍ وَاسْتِكْبَارٍ عَنْ تَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ الْوَاعِظُونَ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ هَذَا الْقَوْلُ لِلتَّكْوِينِ، أَيْ: تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُنَا بِأَنْ يَكُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ أَيْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ فَكَانُوا كَذَلِكَ.

قِيلَ: إِنَّ هَذَا بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِلْعَذَابِ الْبَئِيسِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقِيلَ هُوَ عَذَابٌ آخَرُ، وَإِنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>