للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَثَرٌ مُعْضَلٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ فَشَا هَذَا الْقَوْلُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ نَذْكُرْهُ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ بِذِكْرِهِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ صَارَ يَفْشُو فِي الْمُسْلِمِينَ بِضَعْفِ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحَ يُهْجَرُ وَيُنْسَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الدِّينِ وَحُكْمِ اللهِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يُنَافِي صُدُورَ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ مِنْهُ.

ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) فَعَادَ إِلَى ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا عَهِدْنَا فِي أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ مِنْ ضُرُوبِ الِانْتِقَالِ بِالْمُنَاسَبَاتِ الدَّقِيقَةِ.

وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُنْشِئِينَ وَالْمُؤَلِّفِينَ الَّذِينَ يَخُصُّونَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْكَلَامِ بِمَوْضُوعٍ مُعَيَّنٍ وَيُسَمُّونَهَا فَصْلًا أَوْ بَابًا، وَلَكِنَّ لِلْقُرْآنِ أَغْرَاضًا يُبْرِزُهَا بِصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَكُلَّمَا لَاحَتِ الْمُنَاسَبَةُ لِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ أَوِ الدِّفَاعِ عَنْهُ، جَاءَ بِهِ يَجْذِبُ إِلَيْهِ الْأَذْهَانَ، وَيُسَارِقُ بِهِ خَطَرَاتِ الْقُلُوبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ التَّنَاسُقِ، وَحِفْظِ الْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ، لِهَذَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ بِعِبَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَيَتَجَلَّى الرُّوحُ الْوَاحِدُ فِي أَشْكَالٍ مُتَنَوِّعَةٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ التَّنَاسُبِ وَالتَّقَارُبِ فِي الْمُجَاحَدَةِ وَالْمُعَانَدَةِ، فَكَانَ ذِكْرُهُمْ مِنْ مُتِمَّاتِ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ

أَدَّى غَرَضًا مَقْصُودًا فِي ذَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُهُمْ فِي عَرَضِ الْكَلَامِ كَالْجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ، كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى سَرْدِ شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رُجُوعًا إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ.

وَقَالَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنَ الْقَبِيحِ أَشَدَّ التَّأَلُّمِ إِذَا وَقَعَ مِمَّنْ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَرْجُو أَنْ يُبَادِرَ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الْإِيْمَانِ بِهِ، وَأَلَّا يَرَى مِنْهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَالْمُجَاحَدَةَ وَالْعِنَادَ؛ وَلِهَذَا كَبُرَ عَلَيْهِ أَنْ رَأَى مِنْ إِعْرَاضِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَإِسْرَافِهِمْ فِي مُجَاحَدَتِهِ أَشَدَّ مِمَّا رَأَى مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ جَاءَ لِمَحْوِ دِينِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَمَقْصِدِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَتَقْوِيمِ عِوَجِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ التَّقَالِيدِ، وَتَرْقِيَةِ الْمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ إِلَى أَعْلَى مَا اسْتَعَدَّ لَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الِارْتِقَاءِ الْعَقْلِيِّ وَالْأَدَبِيِّ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (٣: ٦٤) الْآيَةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الصَّعْبِ - لَوْلَا إِعْلَامُ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ تَعْرِفَ دَرَجَةَ فَتْكِ التَّقْلِيدِ بِعُقُولِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِفْسَادِ الْأَهْوَاءِ لِقُلُوبِهِمْ، لِذَلِكَ سَلَّى اللهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ عَمَّا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ عِنَادِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ عَرَّفَهُ فِيهَا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى اتِّحَادِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ قَدْ تَعَصَّبَ لِتَقَالِيدِهِ، وَاتَّخَذَ الدِّينَ جِنْسِيَّةً لَا يُرْضِيهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْءٌ إِلَّا الدُّخُولَ فِيهَا وَقَبُولَ لَقَبِهَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) مُرَادٌ بِهِ مَا هُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>