للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَرَأَ تَعْقِلُونَ بِالتَّاءِ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَسَهْلٌ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ، فَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ بِهِ لِلْيَهُودِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ; لِتَعْتَبِرَ بِحَالِهِمْ، وَتَجْتَنِبَ مَا كَانَ سَبَبًا لِسُوءِ مَآلِهِمْ، مِنَ الْإِصْرَارِ

عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (يَعْقِلُونَ) عَلَى الْأَصْلِ فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَائِبِينَ، وَلَوْ صَحَّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ وَحْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لَهَا ; لِأَنَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ الْخَلْفِ، الَّذِي نَزَلَ فِيهِ هَذَا الْوَصْفُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُمَسِّكُونَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ مَنْ مَسَّكَ تَمَسُّكًا بِمَعْنَى تَمَسُّكَ تَمَسُّكًا، وَمِثْلُهُ قَدَّمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، وَمِنْهُ: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ (٤٩: ١) وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمَّادٌ يُمَسِكُونَ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِمْسَاكِ - أَيْ: وَالَّذِينَ يَسْتَمْسِكُونَ بِعُرْوَةِ الْكِتَابِ الْوُثْقَى، وَيَعْتَصِمُونَ بِحَبْلِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَأَوْقَاتِهِمْ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ فِي أَوْقَاتِهَا إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُصْلِحُونَ، وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، فَهُوَ خَبَرٌ قُرِنَ بِالدَّلِيلِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (١٨: ٣٠) .

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَعَلَّ حِكْمَةَ خَتْمِ قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُنَا لِلتَّذْكِيرِ بِبَدْءِ حَالِهِمْ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ فِي أَثَرِ بَيَانِ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْهُ ; فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْفَاتِحَةِ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الْخَاتِمَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ لِيَأْخُذُنَّ بِالشَّرِيعَةِ بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ، فَإِنَّهُ رَفَعَ فَوْقَهُمُ الطُّورَ، وَأَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ مِنْ خَوْفِ وُقُوعِهِ بِهِمْ، فَلَا غَرْوَ إِذَا آلَ أَمَرُهُمْ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ وَقَسَاوَةِ الْقُلُوبِ وَالْأُنْسِ بِالذُّنُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَتَانِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأُشِيرَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَذَكَرْنَا آيَةَ الْأَعْرَافِ هَذِهِ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ الْأُولَى. وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ إِذْ نَتَقْنَا فَوْقَ هَؤُلَاءِ الْجَبَلَ، جَبَلَ الطُّورِ: أَيْ رَفَعْنَاهُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَوْ زَلْزَلْنَاهُ وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَهُمْ مُظَلِّلٌ لَهُمْ - كَمَا يُقَالُ نَتَقَ السِّقَاءُ إِذَا هَزَّهُ وَنَفَضَهُ ; لِيُخْرِجَ مِنْهُ الزُّبْدَةَ. قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ اقْتَلَعَهُ وَجَعَلَهُ فَوْقَهُمْ (فَإِنْ قِيلَ) : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ ظُلَّةً بِالْفِعْلِ

لَا كَالظُّلَّةِ، فَإِنَّ الظُّلَّةَ كُلُّ مَا أَظَلَّكَ مِنْ فَوْقِكَ، وَيُصَدِّقُ رَفْعَ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ كَالظُّلَّةِ وَجُودُهُمْ فِي سَفْحِهِ وَاسْتِظْلَالِهِمْ بِهِ (قُلْنَا) : إِنَّهُ وَإِنْ صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ فَإِنَّ رَفْعَ الْجَبَلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا كَانَ لِإِخَافَتِهِمْ لَا لِإِظْلَالِهِمْ، وَأَمَّا ظَنُّهُمْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ فَإِنَّمَا جَاءَ مَنْ زَلْزَلَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ ; عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى قَلْعِهِ وَجَعْلِهِ فَوْقَهُمْ، وَكَمْ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهِ مَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>