للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَكْبَرُ وُجُوهِ الْعَبْرَةِ فِيهَا مَا نَرَاهُ مِنْ حَالِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا اللَّابِسِينَ لِبَاسَ عُلَمَاءِ الدِّينِ، الَّذِينَ هُمْ أَظْهَرُ مَظَاهِرِ الْمَثَلِ فِي الِانْسِلَاخِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَالْإِخْلَادِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَتَفَانِيهِمْ فِي إِرْضَاءِ الْحُكَّامِ، وَإِنْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ، وَالْعَوَامِ وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعَةً خُرَافِييِّنَ، وَهُمْ فِتْنَةٌ لِلنَّابِتَةِ الْعَصْرِيَّةِ تَصُدُّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِلْعَوَّامِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنْهَا عِبَادَةُ الْقُبُورِ بِدُعَاءِ مَوْتَاهَا فِيمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالطَّوَافُ بِهَا وَالنُّذُرُ لَهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ

لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُقَرِّرَتَانِ لِمَضْمُونِ الْمَثَلِ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّ أَسْبَابَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ إِنَّمَا يَنْتَهِي كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا بِالْمَرْءِ الْمُسْتَعِدِّ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْغَايَتَيْنِ، وَالْعُرْضَةُ لِسُلُوكِ كُلٍّ مِنَ النَّجْدَيْنِ، بِتَقْدِيرِ اللهِ وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَنِهِ فِي اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِ وِهَدَايَاتِهِ الْفِطْرِيَّةِ، مِنَ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٧٦: ٣) وَقَدْ أَجْمَلَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى وَفَصَّلَهُ فِي الثَّانِيَةِ بِإِيجَازٍ بَدِيعٍ فَقَالَ: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي أَيْ: مَنْ يُوَفِّقُهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِسُلُوكِ سَبِيلِ الْهُدَى بِاسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَحَوَاسِّهِ، بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَإِرْشَادِ الدِّينِ، فَهُوَ الْمُهْتَدِي الشَّاكِرُ لِنِعَمِهِ تَعَالَى، الْفَائِزُ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أَيْ وَمَنْ يَخْذُلْهُ بِالْحِرْمَانِ مِنْ هَذَا التَّوْفِيقِ، فَيَتَّبِعَ هَوَاهُ وَشَيْطَانَهُ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَحَوَاسِّهِ فِي فِقْهِ آيَاتِهِ تَعَالَى وَشُكْرِ نِعَمَهِ، فَهُوَ الضَّالُّ الْكَفُورُ الْخَاسِرُ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ يَخْسَرُ بِذَلِكَ مَوَاهِبَ نَفْسَهُ الَّتِي كَانَ بِهَا إِنْسَانًا مُسْتَعِدًّا لِلسَّعَادَةِ فَتَفُوتُهُ هَذِهِ السَّعَادَةُ فَوْتًا إِضَافِيًّا فِي الدُّنْيَا وَحَقِيقِيًّا فِي الْآخِرَةِ.

وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَحَاسِنِ الْبَدِيعِ الِاحْتِبَاكُ، وَهُوَ حَذْفُ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ نَظِيرِهِ وَمُقَابِلِهِ - وَهُوَ الْخُسْرَانُ - فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَحَذْفُ الضَّالِّ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِإِثْبَاتِ مُقَابِلِهِ وَهُوَ الْمُهْتَدِي فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَإِفْرَادُ الْمُهْتَدِي فِي الْأُولَى

<<  <  ج: ص:  >  >>