للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ فَسَّرَ السُّدِّيُّ الِاسْتِدْرَاجَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، فَجَعَلَهُ خَاصًّا بِأَخْذِهِمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ.

وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ الِاسْتِدْرَاجَ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ فِي اللُّغَةِ، كَاغْتِرَارِ الْعُصَاةِ بِالنِّعَمِ الَّتِي تُنْسِيهِمُ التَّوْبَةَ، وَتُلْهِيهِمْ عَنْ شُكْرِ النِّعَمِ، وَاقْتِصَارِهِمْ عَلَيْهِ غَفْلَةً عَنْ سَبَبِ النُّزُولِ، وَمَنْ أُنْزِلَ فِيهِمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٦٨: ٤٤) وَقَفَّى عَلَيْهَا بِمِثْلِ مَا هُنَا - وَالسُّورَتَانِ مَكِّيَّتَانِ - وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ الْإِمْلَاءُ: الْإِمْدَادُ فِي الزَّمَنِ وَالْإِمْهَالُ وَالتَّأْخِيرُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَلْوَةِ وَالْمُلَاوَةِ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الطَّوِيلَةُ مِنَ الزَّمَنِ، وَالْمَلَوَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَحَقِيقَتُهُ تَكَرُّرُهُمَا وَامْتِدَادُهُمَا، يُقَالُ: أَمْلَى لَهُ إِذَا أَمْهَلَهُ طَوِيلًا، وَأَمْلَى لِلْبَعِيرِ إِذَا أَرْخَى لَهُ الزِّمَامَ، وَوَسَّعَ لَهُ فِي الْقَيْدِ; لِيَتَّسِعَ لَهُ الْمَرْعَى. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (١٩: ٤٦) أَيْ زَمَنًا طَوِيلًا وَالْمَلَا بِالْقَصْرِ الْمَفَازَةُ الْوَاسِعَةُ الْمُمْتَدَّةُ، وَأَمَّا الْإِمْلَاءُ لِلْكَاتِبِ بِمَعْنَى تَلْقِينِهِ مَا يَكْتُبُ فَأَصْلُهُ أَمْلَلَ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ.

وَالْكَيْدُ كَالْمَكْرِ هُوَ التَّدْبِيرُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ، بِحَيْثُ يَنْخَدِعُ الْمَكِيدُ لَهُ بِمَظْهَرِهِ فَلَا يَفْطِنُ لَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مَا يَسُوءُهُ مِنْ مَخْبَرِهِ وَغَايَتِهِ، وَأَكْثَرُهُ احْتِيَالٌ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، كَكَيْدِ يُوسُفَ لِأَخْذِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ مِنْ إِخْوَتِهِ لِأَبِيهِ بِرِضَاهُمْ وَمُقْتَضَى شَرِيعَتِهِمْ ; وَلِذَلِكَ أُسْنِدَ وَأُضِيفَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مِثْلِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِضَافَةَ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ أَوْ إِسْنَادَهُمَا إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ، أَوْ مُتَأَوَّلٌ بِمَعْنَى الْعِقَابِ وَالْجَزَاءِ، وَمَا بَيَّنَّاهُ أَدَقُّ. وَالْمَتِينُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَأُمْهِلُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَدْرَجِينَ فِي الْعُمْرِ، وَأَمُدُّ لَهُمْ فِي أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْحَرْبِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِي فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ لِلْبَشَرِ كَيْدًا لَهُمْ وَمَكْرًا بِهِمْ لَا حُبًّا فِيهِمْ وَنَصْرًا لَهُمْ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٣: ٥٤ - ٥٦) وَإِنْ تَسْأَلْ عَنْ كَيْدِي فَهُوَ قَوِيٌّ مَتِينٌ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ فَمَعْنَى هَذَا الْإِمْلَاءِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ قَدْ مَضَتْ بِأَلَّا يَكُونَ عِقَابُهُمْ بِمُقْتَضَى الْأَسْبَابِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْخَلْقِ، فَالْمَخْذُولُ إِذَا بَغَى وَظَلَمَ وَلَمْ يَنْزِلْ بِهِ الْعِقَابُ الْإِلَهِيُّ عَقِبَ ظُلْمِهِ يَزْدَادُ

بَغْيًا وَظُلْمًا، وَلَا يَحْسِبُ لِلْعَوَاقِبِ حِسَابًا، فَيَسْتَرْسِلُ فِي ظُلْمِهِ إِلَى أَنْ تَحِيقَ بِهِ عَاقِبَةُ ذَلِكَ، بِأَخْذِ الْحُكَّامِ لَهُ أَوْ بِتَوَرُّطِهِ فِي مَهْلَكَةٍ أُخْرَى، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى.

وَقَدْ نَقَلْنَا فِي أَوَائِلِ هَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ عَذَابَ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا

<<  <  ج: ص:  >  >>