للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِهَا كُلِّهَا، لَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا الْإِصْلَاحَ الدِّينِيَّ وَالْأَدَبِيَّ وَالِاجْتِمَاعِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ لَا يُثْمِرُ إِلَّا السِّيَادَةَ وَالسَّعَادَةَ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُهُ جُنُونَ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ، بَلْ إِذَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعِلْمُ الْعَالِي وَالْإِصْلَاحُ الْكَامِلُ مِنْ رَأْيِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَلَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَلَاغَةُ الْمُعْجِزَةُ لِلْبَشَرِ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ مِنْ كَسْبِ مُحَمَّدٍ الَّذِي بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ، وَلَمْ يَنْظِمْ قَصِيدَةً، وَلَا ارْتَجَلَ خُطْبَةً، وَأَنَّ هَذِهِ الْحُجَجَ الْبَالِغَةَ عَلَى كُلِّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ، لَا يَتَأَتَّى أَنْ تَأْتِيَ فَجْأَةً مِنْ ذِي عُزْلَةٍ لَمْ يُنَاظِرْ وَلَمْ يُفَاخِرْ وَلَمْ يُجَادِلْ أَحَدًا فِيمَا مَضَى مَنْ عُمْرِهِ كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - فَإِذَا تَفَكَّرُوا فِي هَذَا كُلِّهِ جَزَمُوا بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى

أَلْقَاهُ فِي رَوْعِهِ، وَنَزَلَ مِنْ لَدُنْهُ عَلَى رُوحِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ اسْتِبْعَادَهُمْ لِذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ، فَاللهُ تَعَالَى الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ; لِهَذَا حَثَّهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَذَكَرَ بَعْدَهَا كَوْنَهُ نَذِيرًا مُبِينًا، وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.

ثُمَّ إِنَّهُ دَعَاهُمْ بَعْدَ هَذَا إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ الْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ الْعَظِيمُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ (فَعَلُوتَ) وَالْمُرَادُ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَجْمُوعُ الْعَالَمِ ; لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ أَظْهَرُ فِي الْعَالَمِ فِي جُمْلَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي إِمْكَانِهِ، وَلَا فِي حُدُوثِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَصْدَرِهِ وَمِمَّ وُجِدَ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَدَمٍ مَحْضٍ ; لِأَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ فَرْضِيٌّ، فَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ وُجُودٌ، وَلَا يُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ قَدْ أَوْجَدَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، وَهَذَا بَدِيهِيٌّ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ وُجُودِ آخَرَ غَيْرِهِ، وَهُوَ اللهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا النِّظَامَ الْعَامَّ فِي الْمَلَكُوتِ الْأَعْظَمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَهُ وَاحِدٌ، وَتَدْبِيرَهُ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ عَلِيمٍ وَاحِدٍ، وَحِكْمَةِ حَكِيمٍ وَاحِدٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (٥٢: ٣٥، ٣٦) .

وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَكَذَّبُوا الرَّسُولَ الْمَشْهُورَ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالرِّوَايَةِ وَالْعَقْلِ، حَتَّى جَعَلُوا تَحْكِيمَهُ فِي تَنَازُعِهِمْ عَلَى رَفْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ هُوَ الْحُكْمُ الْفَصْلُ - وَلَمْ يَنْظُرُوا نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاسْتِدْلَالٍ فِي مَجْمُوعِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَالنِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي قَامَ بِجُمْلَتِهِ، وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنْ دَقَّ وَصَغُرَ، وَخَفِيَ وَاسْتَتَرَ، فَفِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا عَبَثًا، وَلَا يَتْرُكُ النَّاسَ سُدًى، تَدُلُّ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>