للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهُوَ أَكْمَلُ كُتُبِ اللهِ بَيَانًا، وَأَقْوَاهَا بُرْهَانًا، وَأَقْهَرُهَا سُلْطَانًا، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَلَا مَطْمَعَ فِي إِيمَانِهِ بِغَيْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَرْوِ ظَمَأَهُ الْمَاءُ النُّقَاخُ الْمُبَرَّدُ فَأَيُّ شَيْءٍ يَرْوِيهِ؟ وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ فِي نُورِ النَّهَارِ فَفِي أَيِّ نُورٍ يُبْصِرُ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُقَرِّرٌ لِجُمْلَةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ الْمُرَادِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ لَا لِلْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ لَهُ أَكْمَلَ الرُّسُلِ، وَأَقْوَاهُمْ بُرْهَانًا فِي حَالِهِ وَعَقْلِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَكَوْنِهِ أُمِّيًّا - فَمَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى بِهَذَا الْكِتَابِ، عَلَى ظُهُورِ آيَاتِهِ وَقُوَّةِ بَيِّنَاتِهِ، وَبِهَذَا الرَّسُولِ الْمُتَحَدَّى بِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُ اللهُ، أَيْ قَضَتْ سُنَّتُهُ فِي نِظَامِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَارْتِبَاطِ الْمُسَبِّبَاتِ فِي أَعْمَالِهِ بِالْأَسْبَابِ، بِأَنْ يَكُونَ ضَالًّا رَاسِخًا فِي الضَّلَالِ، وَإِذَا كَانَ ضَلَالُهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ؟ وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى تَغْيِيرِ سُنَنِهِ وَلَا تَبْدِيلِهَا.

وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى يَتْرُكُ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ فِي طُغْيَانِهِمْ، كَالشَّيْءِ اللَّقَا الَّذِي لَا يُبَالَى بِهِ، حَالَةَ كَوْنِهِمْ يَعْمَهُونَ فِيهِ أَيْ يَتَرَدَّدُونَ تَرَدُّدَ الْحَيْرَةِ وَالْغُمَّةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَهُوَ الطُّغْيَانُ، أَيْ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْعَمَهِ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ فِي الْحَيْرَةِ وَالِارْتِكَاسِ فِي الْغُمَّةِ، وَقَدْ رُوعِيَ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ أَوَّلًا لَفْظُ مَنْ " يُضْلِلِ " وَفِي جَمْعِهِ آخِرًا مَعْنَاهَا وَهُوَ الْجَمْعُ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ..

وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ إِسْنَادَ الْإِضْلَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَجْبَرَهُمْ عَلَى الضَّلَالِ إِجْبَارًا، وَأَعْجَزَهُمْ بِقُدْرَتِهِ عَنِ الْهُدَى فَكَانَ ضَلَالُهُمُ اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مَارَسُوا الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ، وَأَسْرَفُوا فِيهِمَا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى حَدِّ الْعَمَهِ فِي الطُّغْيَانِ، فَفَقَدُوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مَا يُضَادُّهَا مِنَ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " يَذَرْهُمْ " بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، فَقِيلَ: هُوَ لِلتَّخْفِيفِ. وَقِيلَ: لِلْإِعْرَابِ بِالْعَطْفِ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِـ " النُّونِ " عَلَى الِالْتِفَاتِ.

(تَحْقِيقُ مَعْنَى الْفِكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ)

مِنْ تَحْقِيقِ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْآيَاتِ كَلِمَتَا التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ عُبِّرَ هُنَا بِالتَّفَكُّرِ فِي مَوْضُوعِ اسْتِبَانَةِ كَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِمَجْنُونٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ غُوَاتِهِمْ، وَبِالنَّظَرِ فِي جُمْلَةِ الْمَلَكُوتِ وَجُزْئِيَّاتِهِ فِي مَوْضُوعِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ نُكْتَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ، وَيَتَجَلَّى تَفْسِيرُ الْآيَتَيْنِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>