للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ، أَوِ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ، كَفَعْلَةِ أَبِي لُبَابَةَ الَّتِي كَانَتْ هَفْوَةً سَبَبُهَا الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ ; وَلِذَلِكَ فَطِنَ لَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْرَحَ مَوْقِفَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مَزَلَّةً فِي الْخِيَانَةِ أَعْلَمَنَا بِهِ عَقِبَ النَّهْيِ عَنْهَا فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ الْفِتْنَةُ: هِيَ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ بِمَا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ أَوْ قَبُولُهُ أَوْ إِنْكَارُهُ، فَتَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَشْيَاءِ، يَمْتَحِنُ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُحَاسِبُهُمْ

وَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِتْنَتِهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْفِتْنَةِ مِرَارًا مِنْ وُجُوهٍ. وَفِتْنَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ عَظِيمَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي فَهْمٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَفْهَامَ تَتَفَاوَتُ فِي وُجُوهِهَا وَطُرُقِهَا، فَأَمْوَالُ الْإِنْسَانِ عَلَيْهَا مَدَارُ مَعِيشَتِهِ، وَتَحْصِيلُ رَغَائِبِهِ وَشَهَوَاتِهِ، وَدَفْعُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَكَارِهِ عَنْهُ، فَهُوَ يَتَكَلَّفُ فِي كَسْبِهَا الْمَشَاقَّ، وَيَرْكَبُ الصِّعَابَ، وَيُكَلِّفُهُ الشَّرْعُ فِيهَا الْتِزَامَ الْحَلَالِ، وَاجْتِنَابَ الْحَرَامِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَكَلَّفُ الْعَنَاءَ فِي حِفْظِهَا، وَتَتَنَازَعُهُ الْأَهْوَاءُ الْمُتَنَاوِحَةُ فِي إِنْفَاقِهَا، فَالشَّرْعُ يَفْرِضُ عَلَيْهِ فِيهَا حُقُوقًا مُقَدَّرَةً وَغَيْرَ مُقَدَّرَةٍ، وَمُعَيَّنَةً وَغَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، وَمَحْصُورَةً وَغَيْرَ مَحْصُورَةٍ، كَالزَّكَاةِ وَنَفَقَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَفَّارَاتِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الْمُعَيَّنَةِ، مِنْ عِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَنُسُكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَنْدُبُ لَهُ نَفَقَاتٍ أُخْرَى لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ غَيْرَ الْمُعَيَّنَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. وَالضَّابِطُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَذْلِ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ: السَّمَاحَةُ وَالسَّخَاءُ، وَهُمَا مِنْ أَرْكَانِ الْفَضَائِلِ، وَلِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِمْسَاكِ: الْبُخْلُ، وَهُوَ مِنْ أُمَّهَاتِ الرَّذَائِلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دَرَجَاتٌ وَدَرَكَاتٌ.

وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَهُمْ كَمَا يَقُولُ الْأُدَبَاءُ: ثَمَرَةُ الْفُؤَادِ وَأَفْلَاذُ الْأَكْبَادِ، وَحُبُّهُمْ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ يُلْقِيهِ الْفَاطِرُ الْحَكِيمُ فِي قُلُوبِ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ، يَحْمِلُهَا عَلَى بَذْلِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ بَذْلُهُ فِي سَبِيلِهِمْ مِنْ مَالٍ وَصِحَّةٍ وَرَاحَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ رَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا إِلَى سَيِّدِ الْحُكَمَاءِ وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ ثَمَرَةُ الْقَلْبِ وَإِنَّهُ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ فَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ ضَعِيفًا كَمَا قَالُوا فَمَتْنُهُ صَحِيحٌ، فَحُبُّ الْوَلَدِ قَدْ يَحْمِلُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى اقْتِرَافِ الْآثَامِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِمْ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، وَتَأْثِيلِ الثَّرْوَةِ لَهُمْ: يَحْمِلُهُمَا ذَلِكَ عَلَى الْجُبْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَوِ الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَعَلَى الْبُخْلِ بِالزَّكَاةِ وَالنَّفَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ، دَعْ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ وَالضِّيَافَةَ، كَمَا يَحْمِلُهُمَا الْحُزْنُ عَلَى مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ عَلَى السُّخْطِ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي كَنَوْحِ الْأُمَّهَاتِ وَتَمْزِيقِ ثِيَابِهِنَّ وَلَطْمِ وُجُوهِهِنَّ، فَفِتْنَةُ الْأَوْلَادِ لَهَا جِهَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الْأَمْوَالِ، وَأَكْثَرُ تَكَالِيفَ مَالِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ. فَالرَّجُلُ يَكْسِبُ الْحَرَامَ،

وَيَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ; لِأَجْلِ أَوْلَادِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِكَبَائِرِ شَهَوَاتِهِ، فَإِذَا قَلَّتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>