للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ رَوَى كِبَارُ مُصَنِّفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ " أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَأْتَمِرُ بِهِ قَوْمُكَ؟ قَالَ:

يُرِيدُونَ أَنْ يَسْجِنُونِي أَوْ يَقْتُلُونِي أَوْ يُخْرِجُونِي. قَالَ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ قَالَ رَبِّي. قَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ، فَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا. قَالَ: أَنَا أَسْتَوْصِي بِهِ؟ بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي " فَنَزَلَتْ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى نُزُولِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّشَاوُرَ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ بِدَارِ النَّدْوَةِ كَانَ عَقِبَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَكَانَ الْخُرُوجُ لِلْهِجْرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا فِيهَا أَمْرَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَحَدَّثُوا بِهِ قَبْلَ إِجْمَاعِهِ، وَإِرَادَةِ الشُّرُوعِ فِيهِ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ فَبَلَغَهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحَالَتِهِمُ الْعَامَّةِ الدَّائِمَةِ فِي مُعَامَلَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِشَرِّ مَا كَانَ مِنْهَا فِي مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ " وَيَمْكُرُونَ بِكَ " أَيْ: وَهَكَذَا دَأْبُهُمْ مَعَكَ، وَمَعَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يَمْكُرُونَ بِكُمْ وَيَمْكُرُ اللهُ لَكُمْ بِهِمْ كَمَا فَعَلَ مِنْ قَبْلُ إِذْ أَحْبَطَ مَكْرَهُمْ، وَأَخْرَجَ رَسُولَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَى حَيْثُ مَهَّدَ لَهُ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَوَطَنِ السُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ، وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ; لِأَنَّ مَكْرَهُ نَصْرٌ لِلْحَقِّ، وَإِعْزَازٌ لِأَهْلِهِ، وَخَذْلٌ لِلْبَاطِلِ، وَإِذْلَالٌ لِأَهْلِهِ، وَإِقَامَةٌ لِلسُّنَنِ، وَإِتْمَامٌ لِلْحُكْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣: ٥٤) وَفِي تَفْسِيرِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ (٧: ٩٩) الْآيَةَ وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمَكْرَ هُوَ التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ; لِإِيصَالِ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْمَمْكُورِ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَوِقَايَةُ الْمَمْكُورِ لَهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ كَذَلِكَ. وَالْغَالِبُ فِي عَادَاتِ الْبَشَرِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْرُ فِيمَا يَسُوءُ وَيُذَمُّ مِنَ الْكَذِبِ وَالْحِيَلِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ مَا أُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ، فَقَالُوا فِي مِثْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ - آيَةِ الْأَنْفَالِ وَآيَةِ آلِ عِمْرَانَ - إِنَّهُ أُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ بِتَسْمِيَةِ تَخْيِيبِ سَعْيِهِمْ فِي مَكْرِهِمْ أَوْ مُجَازَاتِهِمْ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَكْرَ مِنْهُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَالْحَسَنُ وَالسَّيِّئُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (٣٥: ٤٣) وَمِنَ الدُّعَاءِ الْمَرْفُوعِ " وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَتَفْسِيرُ آيَةِ الْأَعْرَافِ مِنَ الْجُزْءِ التَّاسِعِ.

وَأَمَّا قِصَّةُ مَكْرِهِمُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ هِجْرَةُ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ، وَخِذْلَانُ الشِّرْكِ، فَفِيهَا رِوَايَاتٌ أَوْفَاهَا رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ، وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارَبَةٍ، نَنْقُلُ مَا أَوْرَدَ السَّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنْهَا عَنْهُ قَالَ: " وَإِنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ أَشْرَافِ كُلِّ قَبِيلَةٍ اجْتَمَعُوا; لِيَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ وَاعْتَرَضَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>