للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِالسُّنَّةِ، وَالثَّانِي غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى عُمُومِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ وَجْهٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِيمَا سَبَقَ دَلَائِلَ الْعَقَائِدِ وَبَرَاهِينَهَا - كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا سَبَقَ - دُونَ الْوَحْيِ وَإِلَّا كَانَ مُكَرَّرًا. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ مَصْدَرُ كَتَبَ، يُقَالُ: كَتَبَ كِتَابًا وَكِتَابَةً، وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ لِأُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لَا بُدَّ فِي إِصْلَاحِهَا وَتَهْذِيبِهَا مِنْ تَعْلِيمِهَا الْكِتَابَةَ، وَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ الْمُجَاوِرَةُ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَتَيَسَّرُ لَهَا اللَّحَاقُ بِهَا أَوْ سَبْقُهَا، حَتَّى تَكُونَ مِنَ الْكَاتِبِينَ مِثْلَهَا، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَهِيَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَعْرِفَةُ سِرِّهِ وَفَائِدَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَسْرَارُ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّرَائِعُ وَمَقَاصِدُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِسِيرَتِهِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، فَإِنْ أَرَادُوا مِنَ السُّنَّةِ هَذَا

الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُفْهَمُ مِنِ اسْمِهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِالسُّنَّةِ مَا يُفَسِّرُهَا بِهِ أَهْلُ الْأُصُولِ وَالْمُحَدِّثُونَ، فَلَا تَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهَا، فَالْحِكْمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَكَمَةِ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهِيَ مَا أَحَاطَ بِحَنَكَيِ الْفَرَسِ مِنَ اللِّجَامِ وَفِيهَا الْعِذَارَانِ، وَفِي ذَلِكَ مَعْنَى مَا يُضْبَطُ بِهِ الشَّيْءُ، وَمِنْ ذَلِكَ إِحْكَامُ الْأَمْرِ وَإِتْقَانُهُ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَرْوِي الْأَحَادِيثَ يُحَقَّقُ لَهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ وَيَفْهَمُ أَسْرَارَهُ وَمَقَاصِدَهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (٢: ٢٦٩) وَلَنْ يَكُونَ أَحَدٌ دَاخِلًا فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى يَقْبَلَ تَعْلِيمَ الْحِكْمَةِ مِنْ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ.

عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنَّ تَعْلِيمَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ لَا يَكْفِي فِي إِصْلَاحِ الْأُمَمِ وَإِسْعَادِهَا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُقْرَنَ التَّعْلِيمُ بِالتَّرْبِيَةِ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَالْحَمْلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِحُسْنِ الْأُسْوَةِ وَالسِّيَاسَةِ، فَقَالَ: (وَيُزَكِّيهِمْ) أَيْ يُطَهِّرُ نُفُوسَهُمْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَيَنْزِعُ مِنْهَا تِلْكَ الْعَادَاتِ الرَّدِيئَةَ، وَيُعَوِّدُهَا الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ الَّتِي تَطْبَعُ فِي النُّفُوسِ مَلَكَاتِ الْخَيْرِ، وَيُبَغِّضُ إِلَيْهَا الْقَبِيحَةَ الَّتِي تُغْرِيهَا بِالشَّرِّ، ثُمَّ خَتَمَا الدُّعَاءَ بِهَذَا الثَّنَاءِ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، الْعَزِيزُ: هُوَ الْقَوِيُّ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ فَلَا يُنَالُ بِضَيْمٍ، وَلَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرٍ، وَالْحَكِيمُ: هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ أَحْسَنَ مَوْضِعٍ، وَيُتْقِنُ الْعَمَلَ وَيُحْسِنُ الصُّنْعَ، وَالسِّرُّ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ هُنَا إِزَالَةُ مَا رُبَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّهْنِ، أَوْ يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ، مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي دُعِيَ بِهَا لِلْعَرَبِ مُنَافِيَةٌ لِطَبَائِعِهِمْ، بَعِيدَةٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، فَإِنَّهُمْ جَمُدُوا عَلَى بَدَاوَتِهِمْ، وَأَلِفُوا غِلْظَتَهُمْ وَخُشُونَتَهُمْ، فَهُمْ أَعْدَاءُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، خُصَمَاءُ التَّهْذِيبِ وَالتَّرْبِيَةِ، لَا يَخْضَعُونَ لِنِظَامٍ، وَلَا يُؤْخَذُونَ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا اسْتِعْدَادَ فِيهِمْ لِلْمَدَنِيَّةِ وَالْحَضَارَةِ، الَّتِي هِيَ أَثَرُ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَزْكِيَةِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ يُتَوَقَّعُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْخُشُونَةِ وَالْقَسْوَةِ، فَيَجْعَلُهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ؟ لَوْلَا أَنْ عُلِمَ أَنَّ الْمَدْعُوَّ وَالْمَسْئُولَ هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا مَرَدَّ لِأَمْرِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>