للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَعَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ الْوَاجِبَةِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُسْتَغْنَى بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَنِ الْآخَرِ وَلَا يَكُونُ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا سَمِعَ الْعَرَبِيُّ وَصْفَ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالرَّحْمَنِ وَفَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ الْمُفِيضُ لِلنِّعَمِ فِعْلًا لَا يَعْتَقِدُ

مِنْهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْوَاجِبَةِ لَهُ دَائِمًا. لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَنْقَطِعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ صِفَةٍ لَازِمَةٍ ثَابِتَةٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ لَفْظَ الرَّحِيمِ يَكْمُلُ اعْتِقَادُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى وَيُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ. وَيَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ صِفَةً ثَابِتَةً هِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي عَنْهَا يَكُونُ أَثَرُهَا، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ عَلَى غَيْرِ مِثَالِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَيَكُونُ ذِكْرُهَا بَعْدَ الرَّحْمَنِ كَذِكْرِ الدَّلِيلِ بَعْدَ الْمَدْلُولِ لِيَقُومَ بُرْهَانًا عَلَيْهِ اهـ.

أَقُولُ قَدْ سَبَقَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ، وَلَكِنَّهُ عَكَسَ فِي دَلَالَةِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ. قَالَ: وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ فَفِيهِ مَعْنًى بَدِيعٌ، وَهُوَ أَنَّ الرَّحْمَنَ دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَالرَّحِيمَ دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِ، وَكَأَنَّ الْأَوَّلَ الْوَصْفُ وَالثَّانِيَ الْفِعْلُ، فَالْأَوَّلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ أَيْ صِفَةُ ذَاتٍ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَالثَّانِي دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ، أَيْ صِفَةُ فِعْلٍ لَهُ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) ، (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وَلِمَ يَجِيءْ قَطُّ رَحْمَنُ بِهِمْ، فَعَلِمْتُ أَنَّ رَحْمَنَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ. وَرَحِيمٌ هُوَ الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ. قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: هَذِهِ النُّكْتَةُ لَا تَكَادُ تَجِدُهَا فِي كِتَابٍ، وَإِنْ تَنَفَّسَتْ عِنْدَهَا مِرْآةُ قَلْبِكَ لَمْ تَنْجَلِ لَكَ صُورَتُهَا.

وَقَالَ فِي كِتَابٍ آخَرَ عِنْدَ ذِكْرِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ: وَكَرَّرَ أَذَانًا (أَيْ إِعْلَامًا) بِثُبُوتِ الْوَصْفِ وَحُصُولِ أَثَرِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِمُتَعَلِّقَاتِهِ، فَالرَّحْمَنُ: الَّذِي الرَّحْمَةُ وَصَفُهُ، وَالرَّحِيمُ: الرَّاحِمُ لِعِبَادِهِ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) . (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وَلِمَ يَجِيءْ رَحْمَنُ بِعِبَادِهِ وَلَا رَحْمَنُ بِالْمُؤْمِنِينَ، مَعَ مَا فِي اسْمِ الرَّحْمَنِ الَّذِي هُوَ عَلَى وَزْنِ (فَعْلَانَ) مِنْ سَعَةِ هَذَا الْوَصْفِ وَثُبُوتِ جَمِيعِ مَعْنَاهُ لِلْمَوْصُوفِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: غَضْبَانُ لِلْمُمْتَلِئِ غَضَبًا، وَنَدْمَانُ وَحَيْرَانُ وَسَكْرَانُ وَلَهْفَانُ لِمَنْ مُلِئَ بِذَلِكَ، فَبِنَاءُ فَعْلَانَ لِلسَّعَةِ وَالشُّمُولِ الْمُرَادِ مِنْهُ. اهـ.

أَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ تُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ صِيغَةَ (فَعْلَانَ) تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الْعَارِضَةِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى الدَّائِمَةِ، فَاحْتِيجَ إِلَى صِيغَةٍ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ وَهِيَ صِيغَةُ (فَعِيلٍ) فَهَذَا أَقْوَى مَا قِيلَ فِي نُكْتَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ بِالصِّيغَتَيْنِ. وَيَلِيهِ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الرَّحْمَةِ بِالْقُوَّةِ، وَالْآخِرِ دَلَالَتُهُ

عَلَيْهَا بِالْفِعْلِ، وَهَذَا مَعْنَى آخَرُ أَلَمَّ بِهِ هَذَانِ الْإِمَامَانِ، وَلَكِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ جَعَلَ لَفْظَ الرَّحِيمِ هُوَ الدَّالَّ عَلَى الرَّحْمَةِ بِالْفِعْلِ بِدَلِيلِ الْآيَتَيْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>