للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِلَّهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ وَالسِّيَاقُ لَا يَقْتَضِيهِ، وَسَفِهَ: يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَمَعْنَى الْمُتَعَدِّي: اسْتَخَفَّ وَامْتَهَنَ وَأَخَّرَهُ (الْجَلَالُ) وَهُوَ الرَّاجِحُ.

وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ (نَفْسَهُ) تَمْيِيزٌ لِفَاعِلِ (سَفِهَ) وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْإِضَافَةُ إِلَى الضَّمِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ، أَيْ حَمُقَتْ.

وَقَدَّمَ هَذَا الْقَوْلَ كَأَنَّهُ رَجَّحَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ.

وَأَقُولُ: سَفُهَ بِالضَّمِّ - كَضَخُمَ - سَفَاهَةً صَارَ سَفِيهًا، وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ - كَتَعِبَ - سَفَهًا هُوَ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ لَازِمٌ دَائِمًا وَأَنَّ أَصْلَ سَفِهَ نَفْسَهُ بِالرَّفْعِ، فَنُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ كَسَفِهَ نَفْسًا، فَأُضِيفَتِ النَّفْسُ إِلَى ضَمِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِثْلُهُ غَبِنَ رَأْيَهُ. وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) (٢: ١٤٢) .

(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أَيِ اصْطَفَاهُ إِذْ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَا أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ وَنَصَبَ لَهُ مِنْ بَيِّنَاتِهِ، فَأَجَابَ الدَّعْوَةَ وَ (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وَ (الْجَلَالُ) قَدَّرَ كَلِمَةَ " اذْكُرْ " مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ " إِذْ " كَمَا هِيَ عَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي الْكَلَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: (اصْطَفَيْنَاهُ) وَقَدْ نَشَأَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَتَّخِذُونَ الْأَصْنَامَ، فَأَرَاهُ اللهُ حُجَّتَهُ، وَأَنَارَ بَصِيرَتَهُ، فَنَفَذَتْ أَشِعَّتُهَا مِنَ الْعَالِمِ الشَّمْسِيِّ، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ رَبًّا وَاحِدًا مُنْفَرِدًا بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فَبَهَرَهُمْ بِبُرْهَانِهِ، وَأَفْحَمَهُمْ بِبَيَانِهِ، وَقَدْ قَصَّ اللهُ - تَعَالَى - خَبَرَهُ مَعَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى.

(وَوَصَّى بِهَا) أَيْ بِالْمِلَّةِ أَوِ الْخَصْلَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ أَخِيرًا، (إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) بَنِيهِ أَيْضًا، إِذْ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِوَلَدِهِ: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) أَيِ اخْتَارَهُ لَكُمْ بِهِدَايَتِكُمْ إِلَيْهِ وَجَعَلَ الْوَحْيَ فِيكُمْ (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أَيْ فَحَافِظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الِانْقِيَادِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ لَا تَتْرُكُوا ذَلِكَ لَحْظَةً

وَاحِدَةً لِئَلَّا تَمُوتُوا فِيهَا فَتَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنُ حَيَاتَهُ بَيْنَ الشَّهِيقِ وَالزَّفِيرِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا النَّهْيُ إِرْشَادَ مَنْ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى عَدَمِ الْيَأْسِ وَأَنْ يُبَادِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ لِئَلَّا يَمُوتَ عَلَى غَيْرِهِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ انْتِقَالٌ إِلَى إِشْرَاكِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَالَمِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي التَّذْكِيرِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ وَصِيَّةُ يَعْقُوبَ، وَاخْتَلَفَ الْأُسْلُوبُ فَقَدْ كَانَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، فَانْتَقَلَ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ وَالْإِلْحَاحِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْأُولَى فِي خِطَابِ الْعَرَبِ، وَالثَّانِيَةِ فِي خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةِ الْمُخْتَصَرَةِ لِجُمُودِ أَذْهَانِهِمْ وَاعْتِيَادِهِمْ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْمَفْعُولِ وَلَمْ يَقُلْ: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ بَنِيهِمَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>