للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنَ الْمَشْهُورِ الْقَطْعِيِّ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولَهُ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ، وَجَعَلَ آيَتَهُ الْكُبْرَى هَذَا الْقُرْآنَ الْمُعْجِزَ لِلْبَشَرِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، ذَكَرْنَا كُلِّيَّاتِهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ [٢: ٢٣ ص١٥٩ - ١٩١ ج ١ ط الْهَيْئَةِ] وَأَقَامَ بِنَاءَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ عَلَى أَسَاسِ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْمُقْنِعَةِ وَالْمُلْزِمَةِ، وَمَنَعَ الْإِكْرَاهَ فِيهِ، وَالْحَمْلَ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ [٢: ٢٥٦ ص٣٠ - ٣٤ ج ٣ ط الْهَيْئَةِ] ، فَقَاوَمَهُ الْمُشْرِكُونَ وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعْذِيبِ وَالِاضْطِهَادِ لِصَدِّهِمْ عَنْهُ، وَصَدُّوهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ تَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ بِالْقُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ

التَّعْذِيبِ، إِلَّا بِتَأْمِينِ حِلْفٍ أَوْ قَرِيبٍ. فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، ثُمَّ اشْتَدَّ إِيذَاؤُهُمْ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى ائْتَمَرُوا بِحَبْسِهِ الدَّائِمِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ قَتْلِهِ عَلَنًا فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَرَجَّحُوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ قَتْلَهُ، فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (٨: ٣٠) [ص٤٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ] فَهَاجَرَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَارَ يَتْبَعُهُ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى حَيْثُ وَجَدُوا مِنْ مُهَاجَرِهِمْ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَنْصَارًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَيُؤْثِرُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَتِ الْحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ حَالَ حَرْبٍ بِالطَّبْعِ، وَمُقْتَضَى الْعُرْفِ الْعَامِّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَعَاهَدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا عَلَى السَّلْمِ وَالتَّعَاوُنِ فَخَانُوا وَغَدَرُوا، وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ لَهُ مَا كَانُوا يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُظَاهِرُونَهُمْ كُلَّمَا حَارَبُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.

وَقَدْ عَاهَدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى السَّلْمِ وَالْأَمَانِ عَشْرَ سِنِينَ بِشُرُوطٍ تَسَاهَلَ مَعَهُمْ فِيهَا مُنْتَهَى التَّسَاهُلِ عَنْ قُوَّةٍ وَعِزَّةٍ، لَا عَنْ ضَعْفٍ وَذِلَّةٍ، وَلَكِنْ حُبًّا لِلسَّلْمِ وَنَشْرِ دِينِهِ بِالْإِقْنَاعِ وَالْحُجَّةِ، وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا دَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ عَدَا هَؤُلَاءِ عَلَى أُولَئِكَ، وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالسِّلَاحِ فَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ عَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ، وَفَتْحِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَكَّةَ، الَّذِي خَضَدَ شَوْكَةَ الشِّرْكِ وَأَذَلَّ أَهْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ مَا زَالُوا يُحَارِبُونَهُ حَيْثُ قَدَرُوا، وَثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ لَهُمْ فِي حَالَيْ قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، أَنَّهُمْ لَا عُهُودَ لَهُمْ وَلَا يُؤْمَنُ نَقْضُهُمْ وَانْتِقَاضُهُمْ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ (٧) إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ آيَةِ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَيْ لَا عُهُودَ لَهُمْ يَرْعَوْنَهَا وَيَفُونَ بِهَا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ بِحُكْمِ الْمُعَاهَدَاتِ الْمَرْعِيَّةِ فَيَأْمَنُ كُلٌّ مِنْهُمْ شَرَّ الْآخَرِ وَعُدْوَانَهُ، مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَرْعٌ يُدَانُ بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>